باريس ــ بسّام الطيارةالفضيحة الجديدة التي تستعد فرنسا لتقضي فترة العطلة الصيفية على صدى ردات الفعل عليها لم تأتِ من تسريبات إعلامية أو من تفاصيل اعترافات، وهي ليست نتيجة وشاية انتقامية، بل جاءت في سياق تحقيق قضائي، وخرجت من طيات ملف تحقيق في تفجير كراتشي الإرهابي عام ٢٠٠٢، الذي ذهب ضحيته ١١ فرنسياً و٣ باكستانيين.
ومن المتوقع أن تطال شظايا هذه الفضيخة أكثر من سياسي وتنعكس على مجمل ملفات صفقات بيع الأسلحة الفرنسية السابقة والمقبلة وانعكاساتها على الحياة السياسية وتمويلها. ورغم أن القضية تعود إلى أكثر من سبع سنوات، فإن تغييراً في «المقاربة القضائية» التي اعتمدتها عائلات الضحايا الفرنسية، دفع بها إلى واجهة الإعلام.
فبعد سنوات من التحقيق لمعرفة من يقف وراء هذا التفجير الذي أصاب حافلة تابعة لـ«مديرية الإنشاءات البحرية» الفرنسية، التي كانت تنفّذ عقد تجهيز غواصات فرنسية اشترتها باكستان، قررت العائلات تكليف محامٍ خاص، عوضاً عن محامي «جمعية ضحايا الإرهاب»، للاطلاع على تفاصيل التحقيق والمراحل التي قطعها. وحسب أكثر من مصدر مقرّب من العائلات، فإن إحدى «كبرى الفرضيات التي يعمل عليها القضاة» هي أن يكون التفجير «انتقاماً من السلطات الفرنسية لعدم تسديدها عمولات في مقابل صفقة الغواصات».
وحسب التفاصيل التي بدأت تتسرّب، فإن حرباً خفية قامت بين الأجهزة والاستخبارات الفرنسية وذراعها العسكرية في الخارج وبين «بعض العسكريين الباكستانيّين ومن تضرّر من وقف دفع العمولات». كما كشفت المعلومات، التي خرجت من لقاء القاضي مع عائلات الضحايا، أن «الأجهزة الفرنسية نفّذت عمليات انتقام» في باكستان بعدما وردتها عدة رسائل تهديد نتيجة «وقف الدفع». ومن هذه العمليات «تكسير سيقان ثلاثة ضباط بحرية كبار، وقتل ضابط أقل رتبة».
وإذ يعطي ملف التحقيق أهمية لهذه المعلومات لكونها تشير إلى أن «السلطات يمكن أن تكون على علم بمن يقف وراء التفجير»، فإنه يكشف أيضاً عن «صراع أجهزة قائم في الخفاء» يدور على تقاسم غنائم عمولات جرّاء تجارة الأسلحة.
وفي التفاصيل أن الاتفاق الموقع بين فرنسا وباكستان عام ١٩٩٤، أي في عز الحملة الانتخابية التي كان يتنافس فيها جاك شيراك مع إدوار بالادور الذي دعمه حينها الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي، نص العقد على دفع عمولة تبلغ ٤ في المئة من القيمة الإجمالية لشركة «ميركور فينانس»، التي يملكها تاجر السلاح اللبناني الأصل زياد تقي الدين. وحسب مصادر اطّلعت على العقد، فإن المادة التاسعة منه «تمنع تقي الدين من إعادة دفع أي قسم من هذه العمولات لأطراف فرنسية»، إذ إن القانون لم يكن يحظر في وقتها دفع عمولات لأطراف أجنبية لتمرير صفقات، إلا أنه كان يمنع دفع رشى لمواطنين فرنسيين.
وقادت الانتخابات إلى انتصار شيراك عام ١٩٩٥ الذي سارع إلى «وقف دفع مجمل عمولات الصفقات التي وقّعت في عهد بالادور»، إذ كان هو والمحيطون به مقتنعين بأن قسماً من هذه العمولات قد «أسهم في تمويل حملة بالادور الانتخابية الذي كان يقودها ساركوزي». وحل بيار مازن المقرب من شيراك على رأس الهيئة العامة المكلّفة بيع الأسلحة الفرنسية «سوفريسا» محل رجل بالادور، جاك دوفياغ، وأعاد «غربلة» كل العقود والاتفاقات الموقّعة في عهد سلفه مع باكستان والسعودية، ما أدى إلى تأخير دفع العمولات، ومنها عمولات «شخصية مهمة في باكستان مقربة من السعوديين بقي لها ١٥ في المئة مما اتفق عليه».
إلا أنه خلال هذه الفترة، مرت المعاهدة الدولية لترشيد العقود والصفقات بين الدول التي وقّعتها فرنسا، ما بات يمنعها عن دفع أي عمولة في الخارج من حيث المبدأ، إذ إنه جرت تصفية حساب عمولات الصفقات السعودية ودفع مبلغين لـ «شخصيات سعودية من الصف الأول» بلغت ١٥٠و٢٥٠ مليون فرنك، بينما لم تدفع عمولات الصفقات مع باكستان رغم أن الوسيط «ميركور فاينانس» هو نفسه في كلتا الحالتين.
ويبدو أن المفاوضات بشأن «تسديد المتوجب» امتدت حتى نهاية ولاية شيراك الأولى، وتخلّلتها بعض «التهديدات» المباشرة وغير المباشرة. ويتساءل البعض ما إذا كانت إعادة انتخاب شيراك كانت إشارة فهمها الطرف الباكستاني المتضرر بأنها إعلان «وقف الدفع» ما يمكن أن يفسر «الرسالة الدموية». إلّا أن «فضيحة الدولة» تكمن، كما ذكر رئيس تحرير صحيفة «ليبراسيون» في افتتاحية رنّانة، في احتمال أن يكون «صراع بين جناحي اليمين الفرنسي في خضمّ نظام فساد سياسي قد قاد بطريقة غير مباشرة إلى مقتل مواطنين فرنسيين». الأيام والتحقيق القضائي وحدهما سوف يفنّدان هذا الحكم على الملف.