سيكون على وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أوغلو، التكيف مع حياة جديدة؛ على «كيسنجر تركيا» أن يفعل كما فعل هنري كيسنجر «الحقيقي» عندما ترك حقائب التدريس في الجامعات ومراكز الاستشارات في سبعينيات القرن الماضي وانتقل إلى واجهة الفعل الدبلوماسي
أرنست خوري
كل شيء سيكون مختلفاً في حياة البروفيسور أحمد داوود أوغلو، بدءاً من حياته الشخصية في الانتقال من رجل الظل المستشار «المهندس»، إلى الواجهة حيث الإعلام والبروتوكول والزيارات والابتسامات أمام العدسات. باختصار، تنتظر داوود أوغلو أوجاع رأس جديدة، تبدأ بإعادة تنظيم «بيته» ـــــ وزارته، وصولاً إلى المهمة الكبرى غير المتواضعة التي خطّها لنفسه في مناصبه الأكاديمية كأستاذ «منظّر» في العلاقات الدولية، ومنذ بدأ بـ«تلقين» حكّام حزب «العدالة والتنمية» ما عليهم فعله في السياسة الخارجية، لتصبح تركيا «قوّة عظمى».
مهمة استهلّ بها كلمته الأولى في منصبه الجديد: تحويل تركيا إلى لاعب إقليمي ولاحقاً عالمي. لاعب لا يكتفي بانتظار اندلاع الأزمات لترميم الخسائر، بل يعمل وفق مبدأ تثبيت النظام في المنطقة المحيطة بنا، من العالم العربي مروراً بإيران إلى منطقة القوقاز وأرمينيا وأذربيجان وروسيا وجورجيا، وصولاً إلى البلقان.
لماذا هذه المناطق، لا أوروبا؟ الجواب شرّحه البروفيسور في كتابه المرجعي، «العمق الاستراتيجي»، فهذه المناطق، لا أوروبا هي «العمق الاستراتيجي» لتركيا.
ولتحديد ما ينتظر داوود أوغلو كوزير للخارجية، يكفي تعداد ما أنجزته أنقرة منذ عام 2002 أو ما بدأته ولم تنجزه بعد. وهنا قد يخطئ البعض عندما يصف داوود أوغلو بأنه صاحب نظرية التوجه نحو الشرق على حساب أولوية الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي. لا يعارض رئيس الدبلوماسية التركية الجديد دخول بلاده النادي الأوروبي، حتى إنه ترأس وفوداً تركية عدة فاوضت بروكسل منذ عام 2005. غير أنّه ضدّ حصر الطموح التركي بتقدم الحظوظ الأوروبية أو تراجعها، وهو يرى أنّ تركيا فائقة القوة في منطقتها أو عمقها الاستراتيجي سيجعل منها مطلباً أوروبياً ملحاً.
فكرة سعى إلى تظهيرها في لقائه الأول مع الصحافيين، أول من أمس، عندما قال: «إن تصبح تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي سيبقى أهم أهداف سياستنا الخارجية بما يتعلق بوجهتنا الغربية».
وينطلق داوود أوغلو في «رؤيته» لدور تركيا في العالم العربي، من نظرية يكررها في كتاباته ودروسه وتقاريره ونصائحه وتوجيهاته وحرفيتها وفق تعابيره: «إلى جانب أننا نمثل 70 مليون مواطن تركي، علينا دفع الدَّين بأفضل السبل لكل الدول التي كانت تركية (عثمانية) أو متصلة بنا في الماضي». وما هي أفضل السبل؟ إنها تتجسد في «توريط» تركيا في جميع مشاكل المنطقة لترتيب الاستقرار والسلام في المنطقة. قاعدة حوّلت، بفضل الرجل، جميع الدول المجاورة لتركيا قبل 2002، من عدو إلى صديق ـــــ حليف ـــــ شريك.
ومن هنا أطلق الرجل الحوار مع رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، خالد مشعل، منذ عام 2006، حتى شاركت تركيا في وقف إطلاق النار خلال عدوان «الرصاص المصهور». كذلك تمكّنت أنقرة ـــــ بفضل داوود أوغلو ـــــ من جمع السوريين والإسرائيليين منذ أيار الماضي في مفاوضات غير مباشرة شملت 4 جولات وتنتظر استئنافها. من هذا المنطلق أيضاً، تمكّن الأتراك من محاورة أكراد العراق حتى بات اعترافهم بإقليم كردستان العراق من الأمور الممكنة. كذلك بفضله تبدو المصالحة التاريخية مع أرمينيا مسألة وقت فقط. أما «منتدى أمن القوقاز»، الذي كان هو نفسه من أطلق فكرته عقب الحرب الروسية ـــــ الجورجية في الصيف الماضي، فيُرجَّح أن يعرف خواتيمه السعيدة في عهده. وهل تصبح تركيا الوسيط الفعلي بين إيران والغرب في ما يتعلق بالملف النووي؟ سؤال لا يجرؤ حتى داوود أوغلو على الإجابة عنه بالجزم سلباً أو إيجاباً.
وبما أن داوود أغلو كان صاحب مشروع إنهاء ملف قبرص المقسمة، فمن يدري؟ قد يوقّع الرجل نفسه اتفاق السلام مع الرئيس القبرصي الشيوعي ديميتري كريستوفياس.
لكن قبل ذلك، أمام داوود أوغلو إعادة ترتيب وزارته: من سفراء بلاده المعتمدين لدى العواصم العالمية «الحساسة»، إلى تعيين المستشارين. فموعد مستشار الرئيس عبد الله غول للشؤون الخارجية غورسان تورك أوغلو مع التقاعد بات مسألة أسابيع. كذلك حال مستشار رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، علي ياكيتال. كذلك إنّ مناصب دبلوماسية مهمة في وزارة الخارجية لا تزال شاغرة. أبرزها الأمانة العامة لشؤون أفريقيا والقوقاز والشؤون الاستخبارية والأمنية. أما الأمين العام لوزارة شؤون الاتحاد الأوروبي أوغوز ديميرالب، فهو أيضاً أُحيل على التقاعد، وتبقى مناصب سفير تركيا لدى عمان وسويسرا وإستونيا شاغرة.