العولمة تعني العولمة. وهذا يعني أولاً أنها تشمل كل شيء. لذلك، لم تكن الكلاب ولا أصحابها بمنأى عن الأزمة الاقتصاديّة المعولمة، وخصوصاً في الغربنيويورك ـ نزار عبود
يؤذونه في بلاد، يكرهونه في أخرى. عرف كيف يدخل إلى أفخم القصور وحتى غرف نوم الأميرات، وصاحَب أجمل بنات حواء، وتناول أفضل الأطعمة إلى جانب الملكات. يحظى برعاية لم يعرفها الملوك. يرافقه صاحبه في نزهات يومية منتظمة، أو يخصص له مدرباً ومربياً. مُنح أوسمة، ونال أحياناً مناصب لا تمنح إلا لجنرالات، لفطنته ونزاهته، وإخلاصه ووفائه وأمانته وشجاعته. ورغم المكانة التي بلغها خلافاً للكثير من الحيوانات المهددة بالانقراض، ومنها قرد «الرانغوتان» الأقرب ذكاءً إلى الإنسان، لا يبدو الكلب في زمن الأزمة الاقتصادية العالمية، بمنأى عن معاناة الكساد الكبير.
الكلب، رمز الوفاء والأمانة، استخدمته كل الأجهزة الأمنية في العالم في أدق العمليات السرية لقدراته الخارقة في التعقب وتمييز الرائحة مهما كانت ضئيلة. عرف الكلب عبر آلاف السنين، كيف يجعل نفسه ضرورياً لحياة الإنسان، من الراعي النشيط المخلص، إلى الحارس ومطارد الفرائس، إلى اشتمام رائحة الألغام. بذلك، ضمن لنفسه موقعاً في الطبيعة، وآخر في المساكن إلى حدّ التمسك به أكثر من الأطفال أحياناً.
ورغم ذلك كله، بدأت الكلاب تشعر بأن شيئاً ما تغير في هذا العالم. في الولايات المتحدة مثلاً، هناك أكثر من ستين مليون كلب يعيشون في البيوت والمزارع وينفق على كل منها ما لا يقل عن 20 ألف دولار خلال حياة قصيرة نسبياً، نظراً إلى أن متوسط عمر الكلب (حسب نوعه وفصيلته) يقل عادة عن 13 عاماً.
فجأة، اكتشفت بعض الكلاب أن أصحابها مكتئبون ولا يولونها العناية المعتادة، والسبب أنهم فقدوا وظائفهم، أو يشعرون بأنها مهدّدة بالتلاشي. وفي حالات كثيرة، تُركت الكلاب في أماكن بعيدة، أو سُلِّمَت لمراكز تعنى برعاية الكلاب. مراكز تحاول بدورها، توفير أسر أخرى لكي تتبنى هذه الكلاب.
وباتت هذه المراكز مكتظة بنزلائها، ولا تجد الكثير من التبرعات لتوفير ما تحتاج إليه الكلاب من طعام غني بالبروتين. وأن يجد الكلب نفسه قد انتقل من نظام غذائي ومعيشي معين، إلى نظام يشبه كثيراً ما يعانيه عاثرو الحظ من نزلاء السجون، فيه الكثير من الظلم والإجحاف، ولا يندرج في خانة رد الجميل لمخلوق ترعرع على مبادئ الشجاعة والتضحية والوفاء.
مع ذلك، تعلّم الكلب المدلّل الوفي أن الإنسان «نذل في وقت الضيق». ويتجلى عدم وفائه بأقسى المظاهر في نهاية موسم الأعياد، حيث يلقى بآلاف الكلاب في قارعة الطريق بعد التسلي بها خلال فترة العيد.
وفي هذه الأيام، هناك عشرات آلاف المنازل المصادرة من المصارف، ومعظمها تؤوي كلاباً أميركية من مختلف الأحجام والأعمار. ولا يجد أصحابها من الفراق بُدّاً، وإن أتى على مضض.
وحتى أولئك الذين لم يفقدوا وظائفهم أو مساكنهم، إنما بدأوا يتقشفون نتيجة الخشية من «الآتي الأعظم»؛ فقد قلّصوا نفقاتهم على الكلاب التي كانت تتمتع بزيارات منتظمة عند الحلاق، وأخرى لمقلّم الأظافر، لأن كثيراً منها يدخل مسابقات للجمال، وأخرى للجري أو إظهار البراعة وتعلم الحيل الجديدة.
والأهم من هذا وذاك، نفقات البياطرة التي تزيد أحياناً على نفقات الطب البشري. وقد بدأ بياطرة الكلاب، وخصوصاً في الولايات المتحدة، يشعرون بمفاعيل الأزمة الاقتصادية العالمية نتيجة عزوف أصحاب الكلاب عن تخفيف آلام صديق العمر. وكذلك هو الحال بالنسبة إلى أطباء علم نفس الكلاب. فقد كان الزائر لهؤلاء يحتاج إلى حجز موعد قبل فصل أو فصلين لمعاينة كلبه إذا توقف عن اللهو والمرح، أو بات يكثر من مشاهدة البرامج التلفزيونية وقضم المسليات.
هذه الأحوال تبدلت أيضاً، وباتت عيادات طب الكلاب النفسي متاحة في كل وقت، بل تعلن إجراء تنزيلات حتى، وتقدم خدمات رعاية مجانية أحياناً. المهم أن يستمر العلاج النفسي، وتدليك العضلات والمفاصل، لأن الكلاب تعاني أيضاً من داء المفاصل.
ورغم الكساد والتقشف، روت إحدى الصحف الأميركية أخيراً، أنه في مركز «رهاب» (اختصار للنقاهة) في سان فرانسيسكو، عولج العام الماضي 215 كلباً و10 قطط وجرذ واحد، ودجاجة على أيدي 15 مختصاً وممرضاً. وبلغت كلفة العلاج 470 ألف دولار أميركي. كل ذلك، رغم الكساد. تكاليف هائلة لم تغطّها شركات التأمين الصحي أو البيطري، كذلك لا تدخل في حساب إصلاح نظام العلاج الصحي في الولايات المتحدة.