وائل عبد الفتاح

نادي عشّاق الطغاة



الصحافي شهير، وغامض. صوته العالي يسمعه القارئ كأن حنجرته في يده. متحمّس دائماً، لم يضبط مرة واحدة في لحظة تفكير. سيرته تشبه أفلام صعود معتادة للفقير المستكين، الذي يستقبل في العاصمة بصفعة، لكنه ينتقم ويصبح هو نفسه من أصحاب الصفعات. معارض لكن الأجهزة أنقذته من حكم مؤكد بالحبس. هو عاشق سري للأجهزة. مبهور بقوتها. صنيعة ذكائها الناعم.
عندما سمع الصحافي خبر مذكرة اعتقال الرئيس البشير خرج من مكتبه وحشد صحافييه ونظموا مسيرة احتجاج على «المؤامرة». لم يترك نفسه لحظة ليفكر. الخطة جاهزة في رأسه. حنجرته مدربة ومداها أوسع انتشاراً من صحيفته. وطنيته سهلة الاستعمال.
لم ينتظر موعد صدور صحيفته. يحجز الصفوف الأولى. ويتصدر الأماكن القريبة من الميكروفون. يصارع دائماً ليكون في طليعة مبشري ثقافة حقوق الإنسان. كانت هذه الثقافة وقتها باباً خلفياً لممارسة سياسة ممنوعة. هجم عليها غوغاء ودهماء ومرتزقة وقطّاع طرق. أرهقوا نبلاء الفكرة. كان للصحافي نوع من المعاناة. حارب من أجل زعامة المنظمة الأولى، وفاز بها. وعندما شعر بالملل وبالمقاومة، اتهم منافسيه بالخيانة والعمالة. وعدّ منظمات المجتمع المدني كلها «أصابع المؤامرة»، التي تتحرك بأموال الغرب المشبوهة.
اسمه بالطبع كان ضمن المحظوظين بكوبونات صدام حسين. أموال الطغاة ليست مشبوهة. والطاغية عنده ظل شهيد الأمة. يوزع صوره الضخمة هدية على قراء صحيفته. يعيد بناء صورة الديكتاتور في قبره ليبرد نار عشق الطغاة.
الصحافي مؤثر. الأوساط الصحافية والسياسية تزدحم بنسخ مكررة منه. ليسوا بمواهبه، لكنهم مثله عشاق الطغاة. نادي واسع العضوية. السياسة بالنسبة إليه لعبة عواطف وحنجرة تضبط تردّداتها لتلغي التفكير. حنجرة تقود حشوداً نصف عمياء.
نائب معارض من حزب وهمي صغير رفع لافتة في البرلمان تقول «انتبهوا أيها السادة الحرب الصليبية بدأت ضد العالم الإسلامي». النائب نفسه قبل فترة قليلة جمع بناته أمام مجلس الشعب ليعلن أمام الجميع أنه يرفض منع الختان. ابتسامة البنات ورب عائلتهم تقول إنهم سعداء. يدافعون عن تربية مختونة. وسلطة خفية تضع قواعد للسيطرة والهيمنة. دفاع عن جرح عنيف، يمنع المتعة الكاملة إلى الأبد، ويحوّل المرأة إلى تمثال بارد.
ها هو النائب نفسه، المعارض، يدافع عن حق الرئيس في إبادة جماعية ومذابح كبيرة ليحافظ على وحدة البلاد.
البشير أصبح قائد الأمة. رمز مقاومة الاستعمار. هكذا فجأةً، ومن دون سابق إنذار. فقط لأن المحكمة الجنائية الدولية قررت محاكمته على جرائم دارفور. المذابح أصبحت مبرّرة. وقادت الحناجر المتيمة بالطغاة حملات أربكت شرائح من المجتمع محرومة هي الأخرى التفكير الحر، وتتلقّى الأفكار كما تتلقّى المعلّبات المحفوظة. هذه الشرائح مخلصة في وطنيتها. وتقع تحت ضغط كبير يجعلها في حالة دفاع دائم عن موقفها. وشعور بالاضطهاد يجعل بعض المخلصين يدافعون عن الجلاد بمنطق أن الحاكم هو الأب الذي يمكن أن يكون متسلّطاً، لكن لا يمكن الوقوف في وجهه، وإذا وقفت فإنك لن تسمح لأحد من خارج العائلة بالاقتراب منه. هذا التصوّر كامن بقوة ينظر فيه للدولة على أنها عائلة يحكمها ذكر قوي عليه إخضاع الجميع، وفي الوقت نفسه الدفاع عنهم.
لا تخفت هنا مفاهيم ترى أن الدولة لم تعد عائلة. ولا الرئيس رب العائلة. والعالم ليس عدواً مطلقاً ولا صديقاً مطلقًا. والحرب الحقيقية هي ضد هذه الصورة التي تبرّر الخضوع لحكام تُبنى «شرعيتهم» على دفاعهم عن «الوطن» ضد مؤامرة خارجية، رغم أن وجودهم هو نوع من مؤامرة نتيجتها إدمان الطغاة.
إدمان يجعل الطاغية بطل الجموع المهزومة فوراً عندما يطلق خطابات مواجهة الاستعمار. عشق الخطابة أصيل. والطاغية يداعب العشق. يجعله بديلاً عن الفعل. يشعر نادي عشاق الطغاة بالانتصار فعلياً عندما يفور الدم في رؤوسهم. تتفرّغ حمولتهم العاطفية مثل مدمن العادة السرية، يتعوّدها وتصبح هي فعل الجنس ذاته.
الخطب والتلويح بالأيدي واستعراضات الحناجر تصيب بالعمى الطويل المفعول. لم يخطر على بال خطابات العمى السياسي أن القبول بجرائم نظام البشير في دارفور، تبرير ضمني لجرائم إسرائيل في فلسطين وأميركا في العراق.
نادي عشاق الطغاة له جماهيرية واسعة، مبررة نتيجة الشعور بالظلم في النظام العالمي، وهو شعور حقيقي، فالدول المسيطرة على العالم «تمارس عدالة مزدوجة». الظلم هو مقدمة الشعور المتضخم بالاضطهاد. وبأن العرب ضحايا مؤامرة كبرى موجودة في كل التفاصيل، من السياسة إلى الماء والهواء.
و«المؤامرة» قد تكون موجودة. لكن الإيمان بها تحوّل إلى بديل عن مواجهتها أو تفكيكها. وهذه طريقة مريحة جداً. تمد أحياناً المؤامرة بجذور تاريخية وتجعلها استنساخاً للحرب الصليبية. استنساخ يستورد الصور من «العدو» نفسه. فصاحب التعبير هو الرئيس الأميركي السابق جورج بوش. واستنساخ تعبيراته أو صوره باعتبارها حقائق، يعدّ إفرازات عقل كسول.
شاب في الثلاثين أنهى حواراً طويلاً عن المقارنة بين القدرات العسكرية لمصر وإسرائيل برؤية مريحة مستوحاة من «صورة حرب خرافية»، سينادي فيها كل شيء على المسلم ليخبره أن هناك يهودياً مختبئاً خلفه، إلّا شجرة واحدة ستمتنع عن الكشف: «هذه الشجرة تزرعها إسرائيل في كل مكان»، كما أكد الثلاثيني لصديقه الذي استغرب كيف انتقل الحوار بهذه البساطة من التفاصيل التقنية إلى خرافة تتنازل عن كل هذا لتصبح المواجهة بأسلحة بدائية وبأساليب تضمن النصر من دون مجهود يذكر.
الانتقال من «التفكير» إلى «الخرافة» سمة من سمات نادي عشاق الطغاة. فالعجز وحده يجعل البحث عن «أب قوي» هو القادر على مواجهة العدو الذي تتضخم صورته تضخّماً لا يقبل أن يُهزم إلّا بقوى سحرية.
وهنا، لا سحر أقوى من سحر الطغاة.

سطوة «الأخ الأكبر»


«المعركة بدأت من واشنطن»، قال الرجل الهادئ معلّقاً على أخبار تسربت من أجهزة الأمن أن «مغربية وتركياً دبّرا حادث الحسين». الرجل لم يهتمّ بمعاني ودلالات بداية مرحلة الخلايا الأجنبية، هو اهتم بزيارة جمال مبارك إلى أميركا
هل سيعود جمال الدين محمد حسني سيد مبارك (وهذا هو اسمه في وثائق الحكومة) كما ذهب إلى أميركا؟
الزيارة وسرّيتها استفزتا «شتات» معارضة مصرية أرسلت إلى الرئيس حسني مبارك خطاباً مسجّلاً على عنوانه في قصر العروبة. الخطاب يتضمن خمسة مطالب هي: إلغاء قانون الطوارئ، والإفراج عن سجناء الرأى، وإصدار قانون دور العبادة الموحد، واتخاذ خطوات نحو ترسيخ الديموقراطية، وإعمال مبدأ الفصل بين السلطات، والكف عن التدخل في شؤون القضاء وتأليف جمعية من جميع الأطياف لإعداد دستور عصري.
المنظمات اجتمعت هي الأخرى في موقع غير معلن. سرية تردّ على سرية. ومعركة ملعبها الأخ الأكبر. أميركا هي الأخ الأكبر للنظام المصري.
والأخ الأكبر يسيطر على النظام بطرق ليست دائماً على هوى أنظمة الاستبداد. وهناك حكاية معروفة وقعت في الثمانينات، وقتها كان الرئيس مبارك وسيطاً في أزمة «أكيلى لورو»، السفينة القبرصية التي خطفها فدائيون فلسطينيون من مجموعة أبو العباس.
مبارك أقنعهم بأن يسلموا أنفسهم إلى أجهزة مصرية ستنقلهم من إيطاليا إلى مصر. على أن يخرج جميع ركاب السفينة سالمين. استسلم الخاطفون وعادوا في الطائرة المصرية، لكنهم فوجئوا بطائرات حربية أميركية تقطع الطريق عليهم وتجبرهم على النزول.
ولم يكن خافياً وقتها أن الاستخبارات الأميركية عرفت خط سير الفلسطينيين من التنصت على هاتف الرئيس. الأمر لم يعد سراً، بل أصبح خبراً صحافياً، لم يرد عليه مبارك سوى بكلمة واحدة: «أنا مجروح».
والإجابة أضافت ناراً إلى جروح شباب غاضب تجمّع أمام بوابة جامعة القاهرة سنة 1985 ليعبّر عن الاحتجاج على قطع طريق طائرة مصرية من دون احتجاج رسمي من الدولة، ومن دون كلمة أكبر من الجرح.
كان الأمر غريباً وقتها. والحكاية كشفها بعد ذلك الصحافي الشهير بوب وودورد في كتابه «النقاب».
ولم تعلن الرئاسة موقفها حتى الآن من التجسس على الرئيس. هل لا يزال هاتف الرئيس مراقباً؟ وهل هاتفه وحده أم هو وجمال وبقية العائلة؟
عندما تراقب الاستخبارات الأميركية الرئيس، بنصف علانية، فهذا يعني أنه تحت سيطرتها الكاملة. فهو يعرف أنها تعرف عنه كل شيء، وستكون ألعابه معها على المكشوف. كما أنه يعني أن الشبكة الرئيسية للنظام تحت سمع الاستخبارات الأميركية.
تفهم المعارضة المشتّتة أن «الأخ الأكبر» هو حدود نظام، قوته مفرطة وبلا حدود. وهذا ما جعلها تختار الزيارة مناسبة لهجوم لم يتوقّعه الأب ولا الابن.

صمود بهجة الأديانالمولد قاوم الإلغاء من الدولة الأيوبية الكارهة لآثار الدولة الفاطمية، وحتى مزاج الوهابيين، الذي حاصر طراوة الشعور الديني عند المصريين بجهامة غريبة. النفسية المصرية انتقت من الدين مظاهر البهجة، التقطتها في سلة استعراضات من أيام الفراعنة مروراً بالأقباط إلى المسلمين. أبطال كل الأديان يجدون عند المصريين مساحات للفرح والاحتفال. هي رابطة سرية بين الطوائف الدينية، قاومت لفترات طويلة نزوع جماعات تسييس الإسلام إلى العزلة والاكتئاب.
بهجة الأديان سمة مصرية صدمتها كارثة 5 حزيران 1967، ولعبت جماعات الإسلام السياسي على الوهم الساحر وتغذية فكرة الإحساس بالذنب لدى كتلة عريضة من المجتمع يريحها تفسير سهل لكل الكوارث على أنها «عقاب إلهي»، وأنها نتيجة «الابتعاد عن الدين».
دخل المجتمع في حالة الشعور بالعار من كل ما حلم به (الدولة الحديثة القوية ـ العدالة الاجتماعية ـ المساواة على أساس المواطنة). تحولت هذه المشاعر إلى حسابات جارية في رصيد الفاشية الكئيبة، تمنحها قوة إعادة صياغة المجتمع على هواها: من الأفكار والعلاقات إلى الأزياء وشكل الوجوه.
تغيرت الأشكال والوجوه والملابس. وارتبط التدين برفض البهجة. إلغاء الاحتفال بالحياة لمصلحة احتفالات أخرى كئيبة. احتفال المولد النبوي كان واحداً من احتفالات مستهدفة. التنظيمات هذه كفّرت «شم النسيم»، عيد ولادة الحياة في مصر القديمة، وتسربت عادات الوهابية السعودية لتبدّل احتفال استقبال المولود أو «السبوع»، الذي تحول مع المرحلة الوهابية إلى «عقيقة»، وهي كلمة ثقيلة على اللسان المصري وتكتفي بفكرة الوليمة القريبة من الطقوس البدوية.
اليوم يحتفل المصريون بالمولد النبوي وينشدون للحسين وعلي وكل آل البيت وسط أصوات حرب تتصاعد ضد «العدو الشيعي». العقلية المصرية ابتدعت طريقة تتجاور فيها جهامة المنع والتدين العصابي مع مواسم البهجة القديمة. البهجة أقل، والجهامة أقوى. لكن لا يزال المصريون يهتفون في الملاعب والشوارع والسياسة «صلوا على النبي». هتاف يشير إلى أن النبي في مصر ليس سلطة قاسية، إنه بطل شعبي خفيف الروح، يبحث عنه المصريون في موكب الحلوى.