لبداية فصل الربيع عند الفرس طقوس مختلفة تتعلّق بمنعطف تاريخي فاصل. هو اليوم الجديد أو «النوروز»، الذي لا يمثّّل بداية فصل فقط، بل بداية سنة جديدة (1388)، في سياق تقويم جمع بين الحساب الشمسي والهجري

■ إيران فشلت في إلغائه... فأسلمته



طهران ــ محمد شمص
عيد «النوروز»، أو رأس السنة الإيرانية، حسب التقويم الهجري الشمسي، عيد قومي يحتفل به الفرس ومن يعيش في كنفهم أو جوارهم من أديان وطوائف متعددة، موزّعة على كل من إيران وطاجيكستان وأفغانستان ودول آسيوية وبعض المناطق التركية والكردية.
و«النوروز» تعني «يوم جديد»، في إشارة إلى بداية فصل الربيع في 21 آذار. عيد توارثته الأجيال منذ آلاف السنين، وقيل إن بدايته تعود إلى العصر الساساني (226 - 651)، الذي بدأ فيه تاريخ السنة الفارسية.
تعود نشأة هذا اليوم، الذي يعني التجدد والحياة، إلى الحضارة الفارسية ما قبل الإسلام، حين كان الفرس يمجّدون النار والماء والشمس والقمر. لكن بعض الطقوس، التي تنافي تعاليم الإسلام، خلقت إشكالية دينية، فحاول علماء الدين المسلمون، بعد انتصار الثورة في إيران، مقاربتها عبر إضفاء الشرعية على بعض طقوسها وعاداتها وحذف المذموم منها وتهذيبها وتشذيبها. مقاربة جديدة اعتُمدت بعدما أخفقت محاولات إلغاء هذه الطقوس نهائياً، بسبب تجذّرها في عقول غالبية الإيرانيين وتقاليدهم منذ آلاف السنين.
ومع ذلك، يقول المرجع آية الله مكارم الشيرازي إن «النوروز يميز الإيرانيين بذوقهم الرفيع»، مشيراً إلى بعض تقاليده من قبيل صلة الرحم وزيارة الأقارب ومساعدة المحتاجين وإزالة الأحقاد وارتداء الجديد من الألبسة، فضلاً عن نظافة البيوت والشوارع والخروج إلى أحضان الطبيعة لمشاهدة الخضرة والأزهار.
ويرى الشيرازي أن هذه العادات حسنة ولا تتعارض والمفاهيم الإسلامية. لكنْ ثمة طقوس مذمومة غير جائزة كإشعال النار والقفز من فوقها وقطع الأعشاب والأشجار.
في هذا العيد، الذي يستمر 20 يوماً، يعيش الإيرانيون أوقاتاً خاصة، فيما تعلن الدولة عطلة رسمية مدة خمسة أيام فقط.
وتبدأ الاستعدادات لاستقبال السنة الجديدة بشراء الثياب الجديدة وتغيير آثاث المنزل، حسب المستطاع. وتشهد الأسواق ليلة العيد حمى شراء غريبة، وخصوصاً لدى النساء، ولا سيما شراء المكسّرات والفاكهة.
وعشية رأس السنة، تقوم كل عائلة بإعداد مائدة العيد المسماة «هفت سين»، أي السينات السبع، وتضم سبع موادّ كلها تبدأ بحرف السين وهي: سيب (التفاح) وسبزي (الخضروات) وسنجد (التمر) وسمنو (الحنطة) وسركه (الخل) وسير (الثوم) وسكه (قطعة نقدية معدنية).
وقيل إن مائدة السينات السبع، كان اسمها (هفت شين) أي الشينات السبع وتضم (الشراب) أي الخمرة، لكن بسبب تحريم الإسلام لها، أُلغيت عن المائدة ووُضع المصحف في وسطها ليصبح اسمها مائدة السينات السبع.
ولدى الطوائف الأخرى يُوضع الإنجيل أو التوراة بدل القرآن. إضافةً إلى ديوان الشاعر المشهور حافظ الشيرازي، إذ يتفاءل الإيرانيون بأشعاره. وتزيّن المائدة بالمرآة والورود والأزهار والأسماك الحمراء الملوّنة بعدد أفراد الأسرة، وتوضع في آنية زجاجية قرب شرفات المنازل ويُعتنى بها حتى اليوم الثالث عشر من السنة الجديدة، يوم الطبيعة، أو ما بات يعرف بيوم النحس والشؤم.
ويعدّ موت السمكة قبل موعد الـ13 (رقم النحس) فألاً سيئاً. أمّا إذا تجاوزته وبقيت على قيد الحياة، فيعمّ الفرح والسرور والتفاؤل أرجاء البيت.
وفي النوروز، يعتقد غالبية الإيرانيين، أو كما جرت العادة منذ القدم، أن من يبقى في منزله ستحلّ عليه مصيبة ما خلال السنة، فيخرج جميع أفراد الأسرة لقضاء يومهم في أحضان الطبيعة في المتنزّهات والحدائق العامة لطرد النحس. وبذلك تزدحم الطرقات بالناس والسيارات.
وتأكيداً لطرد النحس، يرمي الإيرانيون سنابل القمح والأزهار في الأنهار ويفرغون الأواني والأسماك في الأحواض والمياه لتعود إلى حريتها وحياتها الطبيعية.
أمّا الفتيات في سن الزواج، فيعقدن عشبتين في الساحات الخضراء لجلب الحظ والنصيب. وفي بعض القرى والأرياف، يضع الشاب الأعزب منتصف ليلة النوروز، هدية أمام منزل الفتاة التي يحب ويرغب في الزواج بها بانتظار النتيجة في الصباح، فإذا لم يجد هديته يدرك أنه حصل على موافقة الفتاة، أمّا إذا بقيت مكانها، فيعود الشاب أدراجه محبط العزيمة يجر ذيول الخيبة وراءه.
ومن العادات التي يفاخر بها الإيرانيون في هذه المناسبة، صلة الرحم وزيارة الأقرباء والمقابر وعدم ارتداء الملابس القديمة، فهي تجلب الحظ السيّئ. كما تسعى ربة المنزل إلى عدم كسر أي شي، فهو فأل سيّئ. كذلك لا تُغسل الملابس في الأيام الخمسة الأولى من السنة. ومن ثم يعمل البعض على رمي جميع الأدوية والعقاقير القديمة في البيت.
لكن أكثر ما يزعج السلطات الإيرانية، وبالطبع الحوزة الدينية، هو إشعال النار والقفز فوقها لالتصاق هذه العادة بالمجوسية، حسب بعض المؤرخين، فضلاً عن الألعاب النارية المؤذية وذلك في آخر ليلة أربعاء من السنة وتعرف بـ«جهارشنبه سوري»، حيث يجتمع في الساحات والأزقة الشباب والشابات الصغار والكبار ويشعلون النار، ثم يقفزون فوقها بالتزامن مع إطلاق الألعاب النارية لتملأ سماء طهران والمدن. وتؤدّي هذه الطقوس في غالب الأحيان إلى وقوع عشرات الإصابات، بعضها حالات وفاة. وتكاد لا تنفع برامج التوعية المكثفة في وسائل الإعلام وتحذيرات الشرطة والقوى الأمنية.
وبعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، حاولت إيران تهذيب هذه الطقوس وإلغاء مذموماتها، بأن زرعت فيها بعض المفاهيم الدينية والإسلامية في مسعى لأسلمتها، حيث يجتمع أفراد الأسرة ليلاً ويقرأون دعاء تحويل السنة، الذي يبّثه التلفزيون الرسمي بصوت المرشد الأعلى. وبعدها يمزج الإيرانيون قطعة النقود المعدنية في حبوب الحنطة وينقلونها من يد إلى أخرى طلباً للسّعة في الرزق.
وأعدّت مدينة سيرجان في محافظة كرمان هذا العام أكبر مائدة (السينات السبع) لليلة عيد النوروز على مساحة ألف متر مربّع في إحدى الساحات العامة.

■ الأكراد يحتفلون بتجديد البيعة لـ «آبو»
أرنست خوري
جاءت احتفالات عيد النوروز في تركيا هذا العام مختلفة عن كل ما سبقها، في عدد المشاركين وفي التنظيم والطابع السلمي الذي اتسمت به. في التوقيت والظروف السياسية الوجودية بالنسبة إلى الأكراد، لكون الاحتفالات تأتي قبل أيام من الانتخابات المحلية المقررة في 30 من الشهر الجاري، وقبل فترة وجيزة من موعد مؤتمر «تصفية حزب العمال الكردستاني» المنويّ عقده في أربيل خلال الشهرين المقبلين. في التعاطي الحكومي مع المناسبة الأهم بالنسبة إلى جميع الأكراد. في فحوى الرسالة التي بعثها الزعيم عبد الله أوجلان إلى المحتفلين الحالمين بحريته.
كانوا أكثر من نصف مليون كردي في ديار بكر وحدها يوم السبت الماضي، وملايين في 50 مدينة استقبلت العام الجديد وفصل الربيع وفق التقويم الفارسي. رقم اعترفت به على مضض وسائل إعلام كل من السلطة والمعارضة التركيتين، الموحّدتين حول العداء إزاء «القضية الكردية». إعلام «تركي نقي» كان قد توقّع قبل 20 الشهر الجاري ــ موعد بدء الاحتفالات التي تمتدّ 5 أيام ــ أنّ «العمال الكردستاني» سيسعى إلى تفخيخ المناسبة على شكل تفجيرات وأعمال شغب، يردّ من خلالها على محاولات إقصائه وعزله عن مجتمعه الكردي، أكان في الانتخابات المقبلة، أم في مؤتمر أربيل. فالمؤتمر سينتهي، وفق الرئيس العراقي جلال الطالباني، بإجماع أكراد تركيا والعراق وإيران وسوريا، على مطالبة حزب أوجلان بتسليم سلاحه وتصفية القضية الكردية، بما هو متوافر في البلدان الأربعة قانونياً وسياسياً.
أيٌّ من ذلك لم يحصل. نزل الملايين إلى الشوارع ولم يقع إشكال أمني واحد يُذكَر. هدوء يُسَجَّل الفضل فيه لـ«الكردستاني» ولتوأمه «الشرعي» التركي، «المجتمع الديموقراطي»، اللذين قالا من خلال هذا السلوك «الأكثر التزاماً منذ عقود»، بحسب ما اعترفت به صحيفة «حرييت»، إنّ «العمال الكردستاني» هو صاحب القرار في تفجير الشارع الكردي أو في ضبطه ستالينياً. رسالة كان لا بدّ من توجيهها إلى كل من يهمه الأمر، وخصوصاً لـ«العدالة والتنمية» الذي يعوّل على «سرقة» مقعد رئيس بلدية ديار بكر في 30 من الشهر الجاري. فحلم قائدي الحزب الحاكم، أي الرئيس عبد الله غول، ورئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، بات ينحصر بأن يخطف مرشّحهما، قطب الدين أرزو، منصب رئاسة البلدية من عثمان بيدمير (المجتمع الديموقراطي).
كل ما رافق الاحتفالات جعل من الممكن وصف المناسبة بأنها «نوروز انتخابي». فقد حرص جميع المتحدثين الأكراد، أمام جماهيرهم، على التخلّي عن دور المفاوض لمصلحة أوجلان وحده. كلام ردّده جميع مسؤولي حزب «المجتمع الديموقراطي»، من رئيسه أحمد تورك، إلى نائب الرئيس صلاح الدين ديميرتاش والقيادية المقاتلة فيه، ليلى زانا.
إذاً «آبو»، أو «مانديلا الأكراد» على حدّ وصف تورك له، يملك وحده مفتاح الربط والحل الذي لن يخرجه من جيبه قبل إطلاق سراحه. ولأنه يعرف قيمته عند ملايين الأكراد، بعث برسالة مميزة إلى المحتفلين. كلمات تعمّد فيها تثبيت مواقف محددة تجاه القضيتين الحساستين: مؤتمر أربيل وانتخابات الأسبوع المقبل. وعن المؤتمر المذكور، قال أوجلان، في كلمته الطويلة التي تلاها أحد محاميه، إنّ فكرته «هي أميركية الصنع، وتهدف إلى محاصرة حزبنا وعزله عن المكونات الكردية». وبشأن تعهّد الطالباني للقيادات التركية بإقناع الحزب بالتخلي عن سلاحه، رأى أوجلان أنّه «فقط حين تقرر الدولة التركية محاورة الأكراد، يصبح مصير سلاحنا قابلاً للنقاش». شرطٌ ضرب المعادلة التي أرساها الطالباني عندما اقترح أن يكون تسليم السلاح الخطوة الأولى في مسار المفاوضات.
ولم يتطرّق «آبو» إلى رسالته المقتضبة التي وجهها إلى غول أخيراً، ووعده فيها بـ«تطورات مهمة ستشهدها القضية الكردية في الأيام المقبلة»، لكنه بدا متفهّماً إزاء فكرة عقد مؤتمر أربيل بالشروط التي حددها بشأن تسليم السلاح، مضيفاً بنداً آخر هو ضرورة أن «يبحث المؤتمر أوضاع الأكراد ومطالبهم، ليس في تركيا فحسب، بل في جميع بلدان المنطقة التي ينتشرون فيها».
وبكلمات هي أشبه بالتهديد المبطّن، أشار أوجلان إلى أنّه «إذا انتهى المؤتمر إلى توصيات وإجراءات هدفها تذويب حزب العمال الكردستاني، فإنّ هذا سيؤدّي إلى اضطرابات كبيرة لن أستطيع فعل شيء لإيقافها». وأمام الكلمات الواضحة التي كتبها أوجلان، لم يبقَ أمام جميع من ألقوا الكلمات في احتفالات اليومين الماضيين من حزب «المجتمع الديموقراطي»، سوى «تجديد البيعة له»، ووضع بند الإفراج عنه شرطاً لا يجوز التفاوض في أي شيء قبل تحقيقه.
على العموم، برز «الكردستاني» شعبياً في أحسن أحواله. حتى إنّ «العدالة والتنمية» فضّل عدم إظهار عجزه عن منافسة قدرة الحشد الجماهيري عنده، ولم ينظّم احتفالاً مستقلاً للمناسبة، بل ذابت جماهيره وسط الملايين من أنصار أوجلان.
غير أنّ «نوروز» هذا العام قد يكون الأخير الذي يحييه «المجتمع الديموقراطي» تحت اسمه الحالي، إذ إنّ قرار المحكمة الدستورية بحظر وجوده قد يصدر قريباً.
واللافت هذا العام، أن السلطات التركية تعمدت عدم استفزاز المحتفلين. فالأيدي التي خلت من صور أوجلان والأعلام الصفراء لحزبه كانت قليلة جداً في المهرجانات. ورغم ذلك، تحاشت الشرطة التحرّك. وحدهم نحو 20 كردياً كانوا غير محظوظين، لأنهم اعتُقلوا في مدن يمثّل الأكراد فيها أقلية، بتهمة حمل صور أوجلان ومناصرة «الكردستاني الإرهابي».
ولأنّ احتفالات النوروز 2009 كانت مختلفة في كل شيء، فكان لا بدّ لحزب «الشعب الجمهوري» من أن يشارك للمرة الأولى، في الاحتفالات وفي ديار بكر أيضاً، من دون أن يُباد مناصروه، القليلو العدد أصلاً. نعم، «الشعب الجمهوري» بات يحتفل بعيد الأكراد، ولمَ لا؟ فالانتخابات وهموم الفوز بها تبرر كل شيء، وخصوصاً في بلد التناقضات، تركيا.