منذ العدوان على غزّة، لم تتوقف المخاوف الفرنسيّة من انتقال موجات العنف إليها، وانتشار الأحداث «المعادية للساميّة»، ليس فقط في أوساط المهاجرين، بل حتى الأوروبيّين
باريس ــ بسّام الطيارة
تزامن تكريس كبير حاخامي فرنسا الجديد، جيل برنهايم، في احتفال كبير في كنيس، أول من أمس، مع احتفال الجالية الصينية بالسنة القمرية، وإقامة مسيرة «مياو هوي» الكرنفالية، للمرة الأولى في هذا البلد، في منطقة الدائرة العشرين في باريس في حي «باربيس»، وهي منطقة اختلاط الجاليات والطوائف، التي كانت حتى الأمس القريب «مربعاً عربياً صرفاً».
الحي كان يشير إليه الزوار بالحي العربي، رغم وجود كبير للجالية اليهودية التي «هربت من المغرب العربي» على موجتين؛ الأولى عقب استقلال الجزائر، والثانية مباشرة بعد حرب الـ1967، وكانت «تذوب وتعمل بتوافق تام مع عرب باريس». إلا أنه منذ وصول «المهاجرين الصفر» من جنوب شرق آسيا الجديدة خف «التلوين العربي ـــ اليهودي»، وانتقل إلى الضواحي الشمالية، وبات الاختلاط أكثر تنوعاً مع وجود الجاليات الأفريقية.
وفي كل مرة تنطلق فيها شرارة في الشرق الأوسط، ينتقل الخوف من «استيراد العنف» إلى الضواحي، وخصوصاً في ظل تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي فيها. وبالطبع، زاد التوتر خلال العدوان على غزة والصور المؤثرة التي استنهضت حركة استنكار واسعة تجاوزت المسلمين والعرب وحتى اليسار الفرنسي، لتشمل عدداً من المفكرين اليهود المتحررين من عقدة «الدفاع عن إسرائيل في أي ظرف كان».
في هذه الأجواء، تحاول المؤسسات اليهودية في فرنسا الخروج من «مأزق تأييد إسرائيل الأعمى»، ولا سيما أن العدوان زاد من فتحة القمقم الحابس لـ«عفريت اللاسامية» في العالم الغربي، حليفها الأول، وهو ما يضر بمواطنين أوروبيين ينتمون إلى الديانة اليهودية انتماءً مباشراً ومؤلماً. ويزداد الأمر حدة في فرنسا، حيث تعد الطائفة اليهودية الأكبر في أوروبا، بالتوازي مع وجود مكثف لمسلمين فرنسيين أو من أصول عربية أو مهاجرين.
ويأتي هذا في ظل ردود الفعل الحادة التي أثارها قرار البابا بنديكتوس السادس عشر «رفع الحرم الكنسي عن الأسقف الأصولي الكاثوليكي ويليامسون الذي أنكر وقوع المحرقة». وقد استنكر الحاخام الجديد بشدة هذا العفو البابوي قائلاً، في مقابلة مع صحيفة «لوموند»، «إنني أشعر بألم كيهودي وناشط في مجال الحوار بين الديانات». ووصف ما قاله المونسينيور ويليامسون «بأنه لا يمكن أن يصدر عن مسيحي»، متسائلاً «كيف يمكن البابا أن يتناسى إنكار البطاركة الأربعة للمحرقة؟».
وفي رد على سؤال عن «انعكاس ما يحدث في غزة على التعايش بين الملل في فرنسا»، أكد الحاخام الجديد أن «اليهود الفرنسيين في معظمهم مؤيدون لإسرائيل في مواجهة العنف»، مستطرداً أن «أكثرية بينهم تقبل فكرة دولتين»، واصفاً ما يحدث بأنه «ليس حرباً بين بلدين ولا موجهاً ضد دين معين بل هو نزاع بين إسرائيل وحماس».
أما «الاستعمال المفرط للقوة»، فيرى الحاخام أن «صواريخ حماس كان يمكنها أن تقتل المئات من الأشخاص في إسرائيل لولا جهد الحكومة لحمايتهم»، مضيفاً إن «تعاليم التوراة توجب حماية الحياة»، بينما «حماس تدعو إلى الشهادة وتختبئ بين المدارس والمساجد».
إلا أن ما يقوله المسؤول الملّي لا يعبّر بدقة عن شعور «كل الفرنسيين اليهود»، ذلك أن عدداً منهم يعترف بـ«صدمته» حين سمع النشيد الوطني الإسرائيلي في التظاهرة التي نظمها المجلس اليهودي لدعم إسرائيل. وأسرّت إستير بن باسا، وهي مديرة أبحاث في السوربون، للصحافيين الفرنسيين، بأن الادعاء أن ٩٥ في المئة من يهود فرنسا يدعمون إسرائيل «فيه الكثير من المزايدة»، ويقود إلى «ردّ فعل ضد اليهود» وهو ما يتفق الجميع على أنه يحفّز للاسامية في فرنسا في صفوف اليمين المتطرف.
وعلت أصوات عدد من المثقفين اليهود بشعار «لا للجرائم التي ترتكب باسمنا»، وهو نداء جمع خلال أسبوع عدداً كبيراً من التواقيع، حسب أحد منظميه، دانيال ليفين. ويتخوف عدد متزايد من المثقفين اليهود وغير اليهود من تزايد الأحكام اللاسامية التي تبدأ بـ«ما يحصل في غزة قبل أن تنتقل لتصيب يهود فرنسا». ويؤكد هؤلاء أن الخطر نابع ليس من «العرب في فرنسا ولا من المسلمين»، إذ إن هؤلاء «ينسون الأمر بمجرد سكوت المدافع في فلسطين»، إلا أن الخطر الأكبر هو «ما تغرزه ردات الفعل هذه في نفوس البعض المهيئة لردة فعل لاسامية» شبيهة باللاسامية التي اجتاحت أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر لتصل إلى «المحرقة النازية». ويذكر عدد منهم أن «اللاسامية لم تكن مقتصرة على ألمانيا النازية»، بل إن «تعاون العديد من الفرنسيين سهّل نقل المئات من اليهود نحو معتقلات الموت».