باريس ــ بسّام الطيارةتعيش الدبلوماسية الفرنسية حالياً، حالة جزر، بعد المدّ الذي عاشته في «زمن الانتصارات الإعلامية»، التي سجّلها الرئيس نيكولا ساركوزي في ملفات لبنان وسوريا وجورجيا. لكن اليوم، لم يعد كثر يذكرون هذه «البطولات»، بعدما ثبت فشل عملية «البناء على هذه الحقبة»، للذهاب أبعد في القطيعة مع العهد الشيراكي، بهدف العودة إلى سياسة خارجية فرنسية مستقلة عن واشنطن.
ولا يرى البعض في إلغاء الشق السعودي من الزيارة العربية لوزير الخارجية برنار كوشنير، سوى نجاح جزئيّ للدبلوماسية الفرنسية. فوزارة الخارجية، سجّلت من طريق هذا الإلغاء، «امتعاضاً» من عدم شمول لقاءات كوشنير، اجتماعاً مع الملك عبد الله بن عبد العزيز. امتعاض أساسه التركيز الفرنسي على «فقر» الزيارة، بالمقارنة مع مراسم الاستقبال التي كانت تنتظر وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس، في كل مرة كانت تطأ رجلاها أرض المملكة.
وفي السياق، رأى دبلوماسي عربي في باريس أن هذه الزيارة، كانت قبل إلغائها، غير مفهومة «لا بتوقيتها ولا بأهدافها»، وخصوصاً في ظلّ تعثّر التهدئة في غزة. غير أنّ مصادر أخرى فهمت الزيارة بأنها كانت محاولة من كوشنير للاستفسار عن تقدم الانفتاح على سوريا، مشيرة إلى أن الإلغاء جاء «بطلب من السلطات السعودية ليتسنى ترتيب لقاء قريب مع الملك». عذرٌ ترى فيه دوائر الـ«كي دورسيه»، معالم «تعالٍ غير مبرّر»، وسلوكاً منافياً للأعراف الدبلوماسية.
وقد اعترف المتحدث باسم الخارجية الفرنسية، إريك شوفاليه، بأنّ سبب إلغاء الرحلة السعودية تفضيل الطرفين ترتيب موعد آخر يتيح اللقاء بالملك عبد الله.
ويحمّل البعض في باريس، كوشنير، مسؤولية هذا الإخفاق الدبلوماسي، الذي تزداد حدّته في التذكير الدائم بالتناقض الذي شاب تصريحاته وسلوكه إزاء عدوان «الرصاص المصهور» على غزة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن وزارة الخارجية الفرنسية، نبّهت مراراً، من خطورة التلاعب على التناقضات بين فرقاء الحرب، وحثّت على المحافظة على مبادئ ثابتة في التعاطي الدبلوماسي. وفي بادئ الأمر، عوّل البعض على أنّ «القطيعة الساركوزية» يمكنها أن تصوّب مسار الدبلوماسية الفرنسية، وأن تعيدها إلى تقاليدها «المنفتحة على تاريخ المنطقة مع واقعية سياسية لا تستهدف أياً من الأفرقاء من حيث المبدأ». غير أنه لم يأخذ في الاعتبار خصال كوشنير وطبائعه. وجاءت النتيجة على شاكلة «تعددية أصوات ومسارات»، تندرج تحت خانة «ضربة باردة وضربة ساخنة» التي يتّبعها كوشنير لجذب الأضواء نحوه، والتي تنكشف دائماً عند أول محكّ مع «الواقعية على أرض الأحداث».
ورغم تدافع التصريحات المتناقضة والمتضاربة في ما يتعلق بملف «المبادرة الفرنسية ــ المصرية»، وبعض الإدانات الخجولة للاعتداءات الإسرائيلية «التي تعرقل الوصول إلى هدنة»، فإن الجميع باتوا يعلمون أنّ «الدبلوماسية الفرنسية» فشلت فشلاً ذريعاً في هذه المنطقة الساخنة من الشرق الأوسط.
ويصف بعض المراقبين تحرك ساركوزي في خضم مجزرة غزة، بأنه مرّ بمرحلتين: الأولى كان مدفوعاً فيها من كوشنير، الذي أراد «إبعاده عن خط الدوحة ــ دمشق». مرحلة ثبت فشلها، ما جعل الرئاسة تعود لتحرّك الخط الثاني «الذي أثبت نجاحه في عدة ملفات»، والذي أدّى إلى وقف إطلاق النار، كما يعترف دبلوماسي يشترط عدم الكشف عن هويّته.
ويلفت البعض إلى «ثابتة عدم مخاطبة حماس»، التي أبعدت نوعاً ما باريس عن المراحل الحاسمة لحلحلة الأزمة. وفي هذا الصدد، تكشف مصادر فرنسية رفيعة المستوى، لـ«الأخبار»، أن عدداً من التقارير الآتية من القدس المحتلة، «تنبّه» الـ«كي دورسيه»، إلى أن الحديث مع «حماس»، بات «ضرورياً». تقارير تشدد على أنه «رغم تراجع شعبية حماس بصورة طفيفة في غزة بسبب نتائج الحرب»، إلا أنها، بحكم مقاومتها، باتت «مُحاوراً لا يمكن تجنّبه». وتصرّ التقارير نفسها على أنّ «الثمن الذي تطلبه حماس» من باريس، يرتفع كلما تأخر فتح قنوات معها. وتدلّ هذه المعلومات على أن باريس «باتت تسعى للتخاطب مع حماس، وسط ممانعة من بعض الدوائر الفرنسية».
ولا يستبعد أحد الدبلوماسيين الناشطين في عاصمة الأنوار بأن يتصل ساركوزي في أي لحظة، بقادة الحركة الإسلامية، بما أنه «يمهل ولا يهمل»، وبالتالي «لن يجد أي ضير في أخذ الهاتف، ومخاطبة أي فريق إذا رأى أن هذا يفيد التقدم في مسار ما»، وهو ما حصل في الملف اللبناني ــ السوري، عندما دعا حزب الله إلى مؤتمر «سان كلو».
لكنّ كثراً آخرين يرون أنّ ساركوزي بات مقتنعاً بأن عقد مؤتمر دولي في باريس من دون موافقة «دول الممانعة»، هو كضربة سيف في الماء، وخصوصاً في ظل ممانعة روسيا لتجاوز المؤتمر المزمع عقده في موسكو.