أخطر ما واجهته روسيا خلال النصف الثاني من العام الماضي، هو بداية الأزمة المالية واستفحالها، وما حملته من تساؤلات عن قدرة الشعب على الاحتمال. أزمة قد تبدّد الانتصار الروسي في حرب جورجيا، على الأقل لناحية حماية مصالحها، بانتظار عودة فلاديمير بوتين للرئاسة... وهنا يقع الجدل
ربى أبو عمو
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، سقطت الأعلام الشيوعية الحمراء في موسكو، ولم يبقَ منها إلاّ القليل. ومع هذا، رفضت روسيا التخلّي عن «خطوطها الحمراء» ومحورها الاستراتيجي المتمثّل بالدول السوفياتية السابقة، خشية فناء نفوذها. ورغم أن هذه الدولة الاتحادية شهدت ما بعد عام 1991 تخبطاً اقتصادياً وسياسياً استمر حتى تولّي فلاديمير بوتين رئاسة البلاد عام 2000، استعادت موسكو منذ هذا التاريخ، بصورة تدريجية، بعض قوتها السوفياتية، ما مكّنها من خوض حرب في آب الماضي مع جورجيا، كأنها تعلن للمرة الأولى منذ سنوات، أنها قد تنهش بأنيابها من يحاول الاقتراب من فضائها.
هذه الحرب مثّلت حداً فاصلاً في تاريخ روسيا. من خلالها، استطاعت تثبيت قدميها في العالم، أقله استناداً إلى فترة ما بعد الانهيار. وكما قال بوتين في إحدى مقابلاته التلفزيونية: «لقد عدّوا يوماً ما ياسر عرفات إرهابياً، ثم منحوه في النهاية جائزة نوبل للسلام! معنى ذلك أن كل شيء ممكن، وعلينا التحلّي بالصبر». ومع أن حرب جورجيا هي محور عام 2008 بالنسبة إلى روسيا، إلاّ أن سنتها بدأت مع انتهاء ولاية بوتين في شهر آذار الماضي. فقيصر روسيا كان يخوض حربه الخاصة، واختار أن يتولى رجلاً من حاشيته الرئاسة، ليضمن ألاّ ينقلب الأخير عليه. وقع الخيار على النائب الأول لرئيس الوزراء ديمتري مدفيديف. وبعد ترشيحه وفوزه، اتفق الرجلان على أن يسمى بوتين، رئيساً للوزراء، وخصوصاً بعد ترؤسه «حزب روسيا الموحدة» الحاكم، ليضمن بذلك حكمه للغالبية البرلمانية في البلاد، بعد خروجه من الكرملين.
جاء يوم الثامن من آب. وبينما كان العالم يشهد افتتاح الألعاب الأولمبية في الصين، غزت جورجيا إقليم أوسيتيا الجنوبية. وبعيداً عن المدنيين، استهدفت تبليسي قوات حفظ السلام الروسية الموجودة في أوسيتيا. أمرٌ انطلقت منه موسكو لتبرير حربها على جورجيا.
ويمكن القول إن خلفية الحرب كانت عبارة عن مواجهة أميركية ـــــ روسية. فبسيطرة جورجيا، حليفة الولايات المتحدة، على أوسيتيا الجنوبية، تكون واشنطن قد نجحت في الاقتراب أكثر من الفضاء الروسي، الأمر الذي تراه الأخيرة خطاً أحمر. أرادت موسكو من خلال حربها وضع حد للغزو الأميركي المتمثل في زحف حلف شمال الأطلسي شرقاً، ومحاولة استمالة الدول الحليفة، أو التي كانت حليفة لموسكو بهدف تعريتها.
استمرت الحرب خمسة أيام، وقيل الكثير عن عودة الحرب البادرة رغم اختلاف المعطيات الحالية، وتحديداً بطلان الصراع الأيديولوجي. توصل بعدها الطرفان إلى خطة لوقف إطلاق النار بوساطة فرنسية قادها الرئيس نيكولا ساركوزي. بعد الهدنة، سارعت روسيا إلى الاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، رداً على اعتراف الولايات المتحدة باستقلال كوسوفو. ولم تكتف بهذا الرد، بل هددت بنشر صواريخ لها في روسيا البيضاء في مقابل إصرار الولايات المتحدة على نشر صواريخها في بولندا وتشيكيا.
انتهت الحرب، وبدأت أخرى. انقضت الأزمة المالية على جميع دول العالم. في البداية، حاولت الصحف الروسية والقادة السياسيون التقليل من خطورة الأزمة في بلادهم حتى سبقتهم. وأخيراً، اعترف بوتين بأن «الاقتصاد الروسي لا يعاني عواقب انهيار النظام المالي العالمي فحسب، بل من الانخفاض الحادّ لأسعار سلع التصدير الأساسية الروسية، مثل النفط والغاز والمعادن والمنتجات الكيميائية».
وخلال الشهرين الماضيين، صدّق مجلس الدوما على طرح مدفيديف، تعديل الدستور وتمديد ولاية الرئيس من أربع إلى ست سنوات، خطوة تمهّد لعودة بوتين إلى سدة الرئاسة خلال عام على الأكثر، بحجة أنه الأقدر على التصدي للأزمة الاقتصادية.
توجد نكتة قديمة في روسيا، بعنوان «القادة السوفيات على قطار». حين توقف القطار فجأة، أطلق ستالين النار على المحرّك، وظل القطار يمشي. بريجينيف أمر رجاله بإغلاق النوافذ وهز القطار ليثبت أنه لا يزال يتحرك. أما بوتين، فلن يدّعي أن القطار لا يزال يعمل، بل سيكتفي بتقديم المال للركاب، لإسعادهم.
صحيح أن روسيا استرجعت هذا العام بعضاً من إرثها السوفياتي، وثبّتت نفوذها في العالم. ورغم أن تأثيرها في القرار العالمي لم ينضج بعد، إلا أن الأزمة الاقتصادية أتت لتعرقل تطور هذه الدولة وسيرها نحو العالمية، والأخطر أنه لا خطط بديلة لدى الكرملين.