أمس كان عيد ميلاد الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، الرابع والخمسين، والهدية التي قدّمها إليه المواطنون كانت المشاركة الكثيفة في التظاهرات «المليونية» التي سارت في شوارع باريس والمدن الأخرى
باريس ــ بسّام الطيارة
شارك مئات الآلاف من العمال الفرنسيين، أمس، في الإضراب العام على مستوى البلاد، لحمل الرئيس نيكولا ساركوزي وحكومته على تغيير السياسة الاقتصادية والاجتماعية، في ظل الأزمة المالية العالمية، وتراجع القوة الشرائية للمواطن والمطالبة ببذل المزيد لحماية الوظائف ودعم الرواتب. وتوصل المنظمون إلى جعل «اليوم الاحتجاجي ناجحاً من ناحية المشاركة»، إلّا أنهم لم «ينجحوا في شل حركة البلاد الاقتصادية»، رغم أنّ أكثر من مليون شخص «ضربوا إسفلت شوارع المدن الفرنسية». ورغم أن أكبر تظاهرة حصلت في باريس بين ساحتي الباستيل والجمهورية، باتجاه ساحة الأوبرا، فإن العاصمة لم تشهد ازدحاماً في وسطها ولا حشوداً على مواقف الحافلات ولا تدافعاً على أرصفة محطات سكك الحديد. بدت هادئة والشمس متألقة في سمائها الزرقاء رغم البرد القارس، ما جعل التظاهرات الضخمة «مصبوغة بألوان فرح وأعياد»، تزيّنها أعلام سادها اللون الأحمر اليساري، وسبقتها أغانٍ «ثورية» نسيتها شوارع باريس منذ زمن طويل.
تعطلت حركة المواصلات العامة في الكثير من المدن، وأُلغيت عشرات الرحلات الجوّية، وامتد الإضراب إلى المدارس والمصارف والمستشفيات ومكاتب البريد والمحاكم والمحطات الإذاعية والتلفزيونية الحكومية، ووصل إلى قصر الإليزيه الذي ألغى كل مواعيده.
وشارك السياسيون من المعارضة في المسيرات، إلّا أنّ الأضواء سُلّطت على «تضامن كل النقابات» للإضراب في استعراض نادر للوحدة بينها. لائحة المطالب طويلة، تميزها المخاوف من ارتفاع معدلات البطالة، وعدم الرضى عن إحجام ساركوزي عن مساعدة المستهلكين، وخصوصاً الاستياء من المصرفيين الذين «ساعدهم ساركوزي عبر مساعدات على شكل سيولة بالمليارات»، بينما يُلقي عليهم المواطن بعض مسؤولية الأزمة المالية وتقلّص القروض والإقراض الاستهلاكي للعائلات. وقال رئيس الاتحاد الديموقراطي للعمال، فرانسوا شيريك، «نحتاج إلى أن نطلق صرخة غضب». وحذّرت نقابات العمال الثماني الرئيسية من استغلال الأزمة، كذريعة لتسريح العمال وخفض التكاليف.
وانتظر المنظمون ما يزيد على ثلاثة ملايين متظاهر في الشوارع في إطار «حركة الإضراب والاحتجاج» التي تحظى بدعم غالبية المواطنين، من دون أن تؤدي إلى تغيير في ميزان القوى السياسي أو أن تمثّل تهديداً لحكومة فرانسوا فييون، الذي أعلن أمس أنّه «يسمع احتجاج المواطنين»، وأنّ حكومته تسعى بكل قوّتها لمحاربة تفشي البطالة المنتظر أن يقفز معدّلها إلى ١٠ في المئة خلال السنة الحالية.
وينتقد عدد كبير من المحللين برنامج ساركوزي للتحفيز الاقتصادي المبني على ضخّ ٢٦ مليار يورو هذه السنة، لكونه يهدف فقط إلى «تشجيع الاستثمار وحماية الصناعات الرئيسية» أي إنه موجه خصوصاً إلى المجموعات الصناعية الكبرى، بينما تطالبه النقابات والأحزاب اليسارية بـ«تشجيع الاستهلاك لدفع الدورة الاقتصادية»، وتحفيز النمو، عبر «إجبار المصارف على تقديم قروض استهلاكية بطريقة ميسّرة وزيادة الأجور وخصوصاً الحد الأدنى منها».
إلا أن كل هذه المطالب تحتاج إلى «قاعدة سياسية تحملها وتطرحها في برامجها الانتخابية»، وهو ما تعجز عنه التنظيمات السياسية المعارضة الرئيسية، وفي مقدّمتها الحزب الاشتراكي. فمن المعروف أن الحكم الفرنسي عمل على الابتعاد عن «النمط الاقتصادي الفرنسي» الذي اعتمدته الحكومات المتعاقبة منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية ويوصف بـ«الاقتصاد اليعقوبي»، في إشارة سياسية إلى دور الدولة في توجيه الخطوط العامة من دون الوصول إلى حدّ «التدخل في تسيير» المؤسسات الخاصة مع مشاركة مؤثرة في مجالس إدارة الشركات الكبرى العاملة بشكل «ريجي»، مثل رينو وإيرباص والبريد وألستوم وشركات النقل العامة وسكك الحديد، وهي كلها شركات إما خُصخصت أو في طريقها للخصخصة، فضلاً عن شركات التأمين والمصارف التي خصخصت قبل سنوات معدودة.
وما يُثير غضب المواطن الفرنسي في هذا خصوصاً هو أن الدولة هبّت لـ«نجدة المصارف التي كانت تمولها»، ودعمتها تجنباً لإفلاس من اشتراها «من دون السؤال عن أرباحها السابقة». وزاد الطين بلة أنّ هذه المصارف التي «تلقت الدعم المالي في نهاية السنة» تستعد لـ «توزيع أرباح على حاملي أسهمها والمساهين» ما استثار عدداً من الجمعيات التي تستعد لرفع دعاوى.
وعلمت «الأخبار» أن لجنة برلمانية تستعدّ للاستماع لرؤساء أكبر ستة مصارف فرنسية لسؤالها عن «مصدر الأرباح التي تعتزم توزيعها». كما كان الإليزيه قد استدعى عدداً من مديري المصارف للضغط عليهم لحملهم على التنازل عن «البونس» التي توزع عليهم في نهاية السنة المالية.


نجح الإضراب... لم ينجح

لا يُقاس نجاح الإضراب في الدول المتقدّمة بقوة الأصوات الخارجة من الحناجر، ولا بقوة ضرب النعال على الإسفلت بل بـ«تأثير التحرّك المطلبي» على العجلة الاقتصادية و«راحة المواطن»، وبالتالي دفعها للتأثير عليه ليضغط على الحكومة لتحقيق بعض من هذه المطالب أو على الأقل فتح المفاوضات.
قال الرئيس ساركوزي قبل أشهر إن «الإضراب يمرّ دون أن يلتفت إليه أحد»، هو محق. ولم تفلح القوى النقابية ببرهان العكس أمس رغم «مليونية» التظاهرات. لكنه مخطئ أيضاً لأن قياس الإضراب لم يعد يمرّ عبر مقياس «الإزعاج الذي يسببه»، وخصوصاً في بلد مثل فرنسا «حيث المطالبة والتنديد والتظاهر، وحتى الثورة، ظواهر طبيعية من قيمه التراثية».
لم يكن أمس يوماً أسود، ولم يكن أبيض. فقد أسهمت وسائل الإنترنت والهاتف المحمول في «تسهيل عمل» الفريقين المتواجهين. النقابات استخدمت هذه الوسائط لتنظيم نفسها ورفع عدد المشاركين عبر تقديم برامج التحرّكات وأمكنة التجمع مع أسماء المسؤولين عن حفظ الأمن، بينما استخدمتها أجهزة الدولة لتسهيل تنقل المواطنين خلال يوم الإضراب، وبالتالي إفشال الإضراب.
ودخل اليوم عامل «التعاضد الاجتماعي» إلى جانب عامل «حفظ البيئة» في معادلة إنجاح الإضرابات أو إفشالها. من المعروف أنه في ظل إضرابات المواصلات، يلجأ عدد كبير من المواطنين إلى وسائل نقلهم الخاصة ما يؤدي إلى زيادة التلوث البيئي، لذلك حثت الجمعيات البيئية على اللجوء إلى «النقل المشترك»، واستعمال الدراجة الهوائية أو محاولة حثّ أرباب العمل على القبول بعمل «عن بعد» عبر الإنترنت.