لم يكن خطاب الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف الأربعاء الماضي، وليد لحظته، بل جاء بأبعاد سياسية داخلية بالدرجة الأولى، تتبعها الملفات الخارجية المعقدة
ربى أبو عمّو
ليس مهماً في زمن ما بعد الخطاب، الحكم على شخصية ديمتري مدفيديف، الذي عرف منذ اللحظة الأولى أن وجوده على كرسي الرئاسة مؤقت، وأنه تم اختياره «باعتباره الرجل الأضعف نسبياً من غيره» للوقوف وقفة الند مع رئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين، الذي يخشى بطبيعة الحال أن يعشق مدفيديف السلطة إلى حد الانقلاب عليه مع مرور الوقت.
عنوان الخطاب ومضمونه الأساسي، ركّزا على مهاجمة واشنطن، لا بل التلويح باتخاذ خطوات عملية للردّ على إحدى القضايا الخلافية، وتحديداً الدرع الصاروخية الأميركية. لماذا هذا الهجوم على واشنطن، بعد ساعات من انتخاب المرشّح الديموقراطي، باراك أوباما؟ رغم أنه المرشح الذي كانت تحبّذه روسيا، نظراً لموقفه الأكثر إيجابية منها مقارنة مع المرشح الجمهوري جون ماكاين، وإن كان الأول اعتبر خلال حملته الانتخابية أن روسيا كانت دولة «معتدية على جورجيا» في حرب الخمسة أيام في آب الماضي.
كان الهدف من الهجوم تسليط الضوء على الحساسية الروسية ـــ الأميركية كذريعة لحجب الأنظار عن اقتراح مدفيديف تمديد الولاية الرئاسية الروسية من أربع إلى ست سنوات. إذاً رمت الإدارة الروسية طعم التمديد بانتظار وقعه في الداخل والخارج، هي التي اختارت توقيتاً جيداً في ظل انشغال العالم بتهنئة أوباما.
ورغم الانهماك العالمي بأوباما، لا تزال روسيا تمهل الدول مزيداً من الوقت لإبراز أي ردة فعل حول اقتراح مدفيديف. أما لناحية الموقف الداخلي الذي يحتل مرتبة ثانوية، فقد أعلن الشيوعيون استياءهم من اقتراح التمديد، إلا أنه لا يشكل أزمة للإدارة الروسية في ظل القدرة على احتوائهم، هم الذين تمتد إليهم ذبذبات الفساد.
وبموازاة ذلك، سيتم إنشاء حزب جديد تحت اسم «التضامن»، على يدي رئيس الجبهة المدنية المتحدة غاري كاسباروف ونائب رئيس الوزراء السابق بوريس نمتسوف بشكل أساسي، لمنع الكرملين من التمديد.
يدرك الكرملين أن الاعتراضات الداخلية لن يكون لها أي تأثير، أما الخارجية منها، فهو قادر على التعامل معها. وفي ما يتعلق بالمواطن الروسي فإن ما يهمه هو تأمين الحد الأدنى من العيش، وهو ما لمّح إليه مدفيديف في خطابه، من خلال وعود برفع الأجور ومحاربة الفساد وإجبار الموظفين الحكوميين على كشف مداخيلهم سنوياً.
غير أن الهجوم على واشنطن مرتبط أيضاً بتوجه روسيا إلى التعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة من منطلق القوة وعدم التنازل، مع إدراكها لنجاح هذا التوجه. ففي ما يتعلق بنشر أجزاء من الدرع الصاروخية الأميركية في كل من تشيكيا وبولندا، قابلتها موسكو بإعلان نشر أنظمة صواريخ «اسكندر» في منطقة كالينينغراد، بهدف إبطال مفعول الدرع الأميركية. تهديد يمتد إلى كل القضايا الخلافية بين الدولتين.
اليوم، تترقب موسكو تنازلاً أميركياً، وخصوصاً مع قدوم أوباما. توسع حلف الأطلسي شرقاً باتجاه روسيا هو أمر يدعمه الرئيس الأسود، رغم إدراك الخبراء الروس أن القرار ليس بيد الرجل الديموقراطي وحده. هذا عدا عن تأييده الانتشار العسكري الأميركي في وسط آسيا، إضافة إلى توجس موسكو من بعض «مستشاريه المتشددين»، أمثال وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت، والمندوب الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة ريتشارد هولبروك. ويبقى موضوع الطاقة الروسية عاملاً للمقايضة بين البلدين.
تراهن روسيا على دبلوماسية أوباما، وتتوقع التوصل إلى تسوية معينة لهذه الملفات، وإن رافقها مدّ وجزرٌ، من دون أن تضطر أميركا إلى تنازل تام، وخصوصاً أنها حاولت احتواء التصعيد الروسي من خلال إعلان وكيل وزارة الخارجية الأميركية، جون رود، أن إدارة الرئيس جورج بوش تريد أن تجري قريباً محادثات مع روسيا بشأن الحد من الرؤوس النووية الاستراتيجية، وتبديد مخاوف موسكو من الدرع الصاروخية الأميركية. إلا أنه كان لافتاً عدم تعليق هذا الرجل على «التمديد».
وفي الحالتين، قد يكون حان دور القانونيين لتبرير عودة بوتين باللعب القانوني على الدستور. بوتين عائد، هو الذي لم يغب أبداً، وإن كانت صورته تظهر على وجه مدفيديف.