ربى أبو عمّوبنى العالم الجديد نفسه وفق قوانين دولية، حظيت بالشرعية للحكم والتحكّم في قضايا الدول وأزماتها. إلا أن القدرة، أو «العصا السحرية»، هي في أيدي «عصابة» من الدول، تحوّل القوانين إلى ظلّ للسياسة.
قصّة الأقاليم الانفصالية قد تكون خير مؤشّر على تحويرات القوانين الدولية وتسخيرها في خدمة المصالح الدولية للقوى الكبرى. بين أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جهة وكوسوفو من جهة ثانية، الصورة قد تكون نفسها، لكن القراءات القانونية تختلف. واشنطن كانت تتوقّع الخطوة الروسيّة بإعلان اعترافها باستقلال الإقليمين الانفصاليين الجورجيين، أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، رداً على اعتراف الولايات المتحدة باستقلال كوسوفو. خطوتان عملت الدول، بحسب مصالحها، على استنكارها أو تأييدها استناداً إلى القانون.
ويرى الأستاذ في القانون الدولي، حسن جوني، أن «عملية اعتراف دولة بدولة أخرى هي قضية قانونية لها علاقة بالسيادة. فالقانون الدولي لا يمنع دولة من الاعتراف بأخرى، حتى وإن كانت لا تلبي كل عناصر الدولة. فهو قرار سيادي وقانوني». إلا أنه يضيف أن للاعتراف نظريتين: «الأولى تقول إن الدولة كي تكون موجودة، لا بد من الاعتراف بها، ويجب أن تتوافر فيها الشروط الثلاثة الأساسية للدولة، وهي الأرض والشعب والنظام. والثانية ترى أن وجود الدولة هو واقع بحد ذاته ليس بحاجة إلى اعتراف».
لكن لعملية الاعتراف غاية غير نشوء الدولة، بحسب جوني، «وهي رغبة هذه الدولة في إقامة العلاقات الدولية التي تخوّلها الدخول إلى المجتمع الدولي على جميع المستويات». ويشدد على أن الاعتراف «يُلزم الدولة المعترفة فقط». أما بالنسبة إلى الدخول إلى الأمم المتحدة، فيقول إن «القضية تصبح موضوعاً مختلفاً، وتتطلّب اعترافاً جماعياً لا فردياً. وهذا النوع من الاعتراف مفضّل عالمياً نظراً إلى شرعيته. فهو يعني الدخول إلى المجتمع الدولي من الباب الواسع».
لكن جوني يرى أن الإشكالية المطروحة هي «الاعتراف بدولة انشقت عن دولة أو مجموعة من الدول، وهذه تعدّ إشكالية سياسية. فهناك مسؤولية كبيرة تتحملها الدولة التي تعترف بالمنشقّين، كذلك فإن نتائج ذلك خطيرة وقد تؤدي إلى حروب بحسب ميزان القوى السياسي».
الحالة تشبه اعتراف أنقرة بقبرص التركية في عام 1975 تقريباً، وهي الدولة الوحيدة التي تبنّت هذا الاعتراف وأقامت علاقات سياسية ودبلوماسية واقتصادية معها. ولم تحصل حرب. أما في حالة الاعتراف الألماني بكرواتيا في أوائل التسعينيات، فقد أعلن الرئيس الفرنسي في حينها، فرانسوا ميتران، أن استقلال كرواتيا عن يوغوسلافيا سيؤدي إلى حرب، وهذا ما حصل.
اعتراف الغرب باستقلال كوسوفو دفع روسيا إلى قلب كفة «الكباش» لمصلحتها، لتردّ معلنة استقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. هذا ما يراه جوني، مع إصراره على قانونية الاعتراف بهذه الأقاليم.
الأستاذ في القانون الدولي شفيق المصري، يخالف رأي جوني، إذ يرى أن «القانون لا يبرّر هذا الاعتراف». ويقول «وفقاً لمبدأ حق تقرير المصير للشعوب، يستطيع كل شعب أن يدعو إلى استقلاله، فينشئ حكومته الوطنية. إلا أن هذه الرغبة لها شروطها في القانون الدولي. أولاً، إذا كانت الدولة مستعمرة، حينها يكون حق تقرير المصير غير مرتبط بشروط مسبقة، وعلى الدولة المستعمرة أن تساهم في هذا الاستقلال. لكن إذا كان هذا البلد ضمن حكومة وطنية وممثلاً تمثيلاً منصفاً فيها وليس هناك أي انتهاك لحقوقه الإنسانية، لا يحق له أن يعلن استقلاله، لأن ذلك سيؤثر على الحكومة الأم».
ويضيف المصري أن «الشروط التي يجب أن تتوافر أيضاً لتحقيق قانونية استقلال أي إقليم انفصالي، تتمثل في أن يكون هناك إرادة جماعية لدى الشعب (الأمر الذي يصعب إنجازه في غالبية الأقاليم الانفصالية لوجود إثنيات رافضة)، إضافة إلى تمثيل هذا الشعب في جميع أجهزة الحكم الوطني والمحلي».
أبخازيا ادّعت أن الحكومة الأمّ تضطهد مواطنيها، وهي تمتلك إثنية خاصة، لكن هذا لا يكفي، بحسب المصري. لذا أتى الاعتراف الروسي في سياق سياسي، لا قانوني. وهذه حال كوسوفو أيضاً. ويرى المصري أنه «كان هناك نوع من التحايل في هذا البلد، تمثّل في تكيّف الإقليم مع النظام الصربي، الذي أسهم في تحقيق انسجام شعبي مع الأوضاع الإنسانية قبيل التسعينيات من القرن الماضي. إلا أن التدخل الصربي العسكري في الإقليم في منتصف التسعينيات، وتدخل حلف شمالي الأطلسي، أدى إلى اعتراف غالبية الدول باستقلال كوسوفو سياسياً».
لا شكّ أن المعيار القانوني سقط لمصلحة السياسة. فمن السخرية القول إن اعتراف الدول العظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا باستقلال أقاليم انفصالية، كانت قد أقرت سيادتها باستفتاء شعبي، هو رغبة في تطبيق القوانين أو إنقاذ شعب من مستعمر، بل هو تدخل في إطار ميزان القوى العالمي.