ربى أبو عمولم تكتمل صورة المحادثات، التي قادها الأوروبيون والأميركيون في جنيف الأربعاء الماضي، خلال سعيهم إلى جمع أمراء الحرب القوقازية التي جرت في آب الماضي: الجورجيون والروس والإقليمان الانفصاليان أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
ضم مبنى الأمم المتحدة في جنيف الدول المتنازعة تحت إشراف دولي. فشل في جمع وفد تبليسي وموسكو وجهاً لوجه، لتكون الصورة النهائية للمحادثات عبارة عن «خربشات فنية»، ما اضطر الأوروبيين في تصريحاتهم إلى التفاخر في الإنجاز الذي حققوه بمجرّد انعقاد اللقاء.
بدت روسيا مسيطرة على زمام الأمور، كأن صورة جنديّها عادت إلى كل الساحات، وهو يرتدي بزته الزيتية، ويصوب سلاحه بخفة المحارب في كل الاتجاهات، في ظل غرق الولايات المتحدة على وجه التحديد بانتخاباتها الرئاسية وأزمتها المالية، التي تمتد إلى حلفائها.
هدفت محادثات جنيف إلى مناقشة الوضع الأمني والقانوني لأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، في إطار تحقيق «الاستقرار في القوقاز». كأن هذا المؤتمر اعترف، ربما عن غير قصد، بتطبيق روسيا لاتفاق 13 آب الماضي، بين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ونظيره الروسي ديمتري مدفيديف، باعتباره يحتل المرتبة الأخيرة، ولعدم تطرق المعنيين إلى التفاصيل الباقية من الاتفاق من جهة أخرى.
تضمنت النقاط الست عدم اللجوء إلى استخدام القوة، وإيقاف جميع العمليات العسكرية، وتأمين الوصول الحر للمساعدات الإنسانية المرسلة. هذا في الشق الأول من الاتفاق الذي يمكن القول إنه تحقق، وخصوصاً أن ساركوزي لم يتطرق إلى عدم التزام روسيا بهذه البنود الثلاث. إلّا أن الجانبين، الروسي والجورجي، لم يتوقفا حتى اللحظة عن اتهام أحدهما للآخر بخرق وقف اتفاق النار، أو الاستعداد لخرقه وإن كان بصورة غير مباشرة، الأمر الذي يدخل في إطار المناورات السياسية بين البلدين بهدف الضغط.
في أوائل الشهر الجاري، قُتل 7 جنود روس في انفجار سيارة في أوسيتيا الجنوبية، فسارعت موسكو إلى اتهام تبليسي بمسؤوليتها عن هذا الهجوم، في سياق عزمها على إثارة النزاع مجدداً. مصدر مقرب من السلطة في روسيا يقول لـ«الأخبار» إن «الحادثة وقعت بسبب خطأ أمني. مرت شاحنة بقرب حاجز روسي في هذه المنطقة. وعند التفتيش، لم تكن الأوراق الثبوتية متوافرة لدى سائقها، ما اضطر الشرطة الروسية إلى توقيفه ومصادرة الشاحنة. وُضعت داخل مكان مخصص للسيارات في القيادة العامة. لكنها كانت مفخخة فانفجرت. لم تقم القوات الروسية بتفتيشها».
وفي سياق السيناريو التخريبي نفسه الذي تدعيه روسيا، وبحسب المصدر نفسه، «وصل تعميم إلى القوى الأمنية الروسية بأن مجموعة جورجية نشأت بعد حرب آب، أطلقت على نفسها اسم وطنيي جورجيا، تستعدّ للقيام بأعمال تخريبية في موسكو وسان بطرسبرغ وسوتشي، من خلال تفجير مبانٍ أو إطلاق نار في أماكن عامة. وبدأت الأجهزة الأمنية باتخاذ إجراءات شاملة في المدن الروسية، وتم اكتشاف أكثر من 35 عملية تخريبية واعتقال 350 شخصاً من المخربين». الجزء الثاني من اتفاق ساركوزي ـــــ مدفيديف، يشمل عودة القوات الجورجية إلى مواقع مرابطتها الدائمة، في مقابل خروج القوات الروسية إلى الخط الذي كانت عليه قبل بداية العمليات العسكرية، الأمر الذي تحقق كما أكدت روسيا وساركوزي. إلاّ أن جورجيا رأت أن الانسحاب الروسي تم جزئياً، إذ إن الروس دخلوا بعض القرى التي كانوا يتمركزون على حدودها في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ولم ينسحبوا منها. لذا، قد تعمد تبليسي إلى الضغط على موسكو للانسحاب من هذه القرى بحجة عدم الالتزام بالاتفاق، فيما ستصر موسكو على عدم صلة هذين الإقليمين المستقلين حديثاً بجورجيا.
يبقى الجزء الأخير والمحوري في الاتفاق، الذي يتضمن البدء بنقاش دولي بشأن مسائل الوضع القانوني لأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وسبل ضمان أمنهما الراسخ، الأمر الذي عقدت محادثات جنيف لبحثه. كان واضحاً أن الغرب أعطى الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي الضوء الأخضر لمحاولة الضغط على روسيا، رغم وقوفها في الموقع الأقوى، فرفض محاورة الروس في ظل وجود ممثلين عن «الإقليمين الانفصاليين». إلّا أن الضغط الروسي فاق نظيره الجورجي، إذ إن انسحابهم من المحادثات دلّ على عدم وجود أي نية لديهم للتراجع عن اعترافهم باستقلال أبخازيا وأوسيتيا.
إذاً روسيا لن تتراجع. والغرب قد يسحب الضوء الأخضر من ساكاشفيلي للرضوخ لموسكو، في ظل إدراكه لأهمية التعاون مع روسيا على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فرشت موسكو بساط مصالحها في أراضي الغرب، وبدأت بسحبه (مع الحفاظ على مصالحها) موقعة الواحد تلو الآخر. حتى إن ثمن تراجع موسكو عن قرارها لن يكون إلاّ وفقاً للبساط نفسه.