فيما كان رجب طيب أردوغان يحزم أمتعته للتوجّه إلى دمشق، كان وزير خارجيّته علي باباجان يوقّع في مدينة جدّة السعوديّة «مذكرة تفاهم» مع دول مجلس التعاون الخليجي الست، تهدف «لفتح الباب أمام علاقات استراتيجيّة سياسيّاً ودفاعيّاً واقتصاديّاً»
أرنست خوري
يروي أكاديميّون أتراك يزورون المنطقة العربية بانتظام كيف كانوا، خلال تحصيلهم لشهادة الدكتوراه في جامعات بلادهم، شبه ممنوعين من التخصّص في قضايا الشرق الأوسط العربي، بما أنّ «الموضوع لن يكون في أولويات دبلوماسية أنقرة»، وخصوصاً أنّ «البوصلة تلزمنا التوجّه نحو أوروبا واتحادها».
جامعيّون وأساتذة كثر كانوا يكتفون بكتابة مقال صحافي عن ألمانيا أو بريطانيا أو فرنسا، لينالوا من جامعتهم الحكوميّة أسخى المنح، بينما كان «عقاب» من يصرّ على التطلّع شرقاً، البقاء في أروقة كليّته في بورصة أو إسطنبول أو أنقرة.
كان ذلك قبل 10 سنوات. أما اليوم، وتحديداً منذ 2002، تاريخ وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى الحكم، انقلبت الآية تماماً، وفُتح باب تركيا على جيرانها الملحقين السابقين بالإمبراطوريّة العثمانية. بقيت الجنّة الأوروبيّة هدفاً (وحلماً؟) مركزياً، لكنه
لم يعد الوحيد. الدليل: باتت الإمارات المستورد الأول من تركيا، بينما ألمانيا تأتي في المرتبة الثانية وفرنسا خامسة!
ومنذ 6 سنوات، لا يفوّت المسؤولون الأتراك لحظة من وقتهم لاستثمارها في مزيد من تكريس دور بلادهم المتعاظم في السياسة الخارجيّة: أردوغان في سوريا وباباجان في الخليج نموذجاً.
ومذكّرة التفاهم، أول من أمس، عدّها باباجان وشركاؤه الخليجيون تكريساً لمفاوضات بدأت قبل خمس سنوات بشأن رزمة اتفاقات اقتصادية ونفطيّة تعيد إلى الأذهان ما بلوره الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال يوماً بنظرية «علينا العمل مع جميع الأطراف وفق معادلة بسيطة: النفط مقابل الماء».
لكن يبدو أنّ الدبلوماسيّة التركية تعمل أحياناً بالمقلوب. فمسار المفاوضات التي شرّعتها حكومات أنقرة الإسلاميّة المعتدلة مع دول الخليج، بدأ باتفاقيّة تجارة حرّة بين البلدان السبعة. ثمّ جاءت زيارة الرئيس عبد الله غول إلى قطر، في شباط الماضي، حيث تعمل 22 شركة تركيّة كبرى، ليعلن عن توقّعه بأن يبدأ العمل بالاتفاقية في عام 2010، موعد بدء تدفّق الغاز القطري إلى تركيا، كخطوة أولى من جانب أنقرة الساعية إلى فكّ تبعيّتها النفطيّة لروسيا وإيران.
غير أنّ «مذكرة التفاهم» هذه جاءت لتشمل أبواب السياسة الدفاعية والاقتصاد والاستثمارات والتنسيق الدبلوماسي، قبل الاتفاق على المجال التجاري.
ومن كلام باباجان، بدا واضحاً أنّ تركيا تسير قدماً في التموضع على الدوام في موقع الوسيط. حتّى هذه المذكّرة، فالهدف البعيد منها، على حدّ تعبير رئيس الدبلوماسية التركيّة، هو «المحافظة على استقرار وأمن الخليج ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، التي يلفّها حزام من النزاعات، تحدّها من الشمال تركيا ومن الجنوب دول الخليج». إذاً الاستراتيجية البعيدة واضحة: محاصرة نيران الشرق الأوسط، المشتعلة منها والخامدة.
ولإزالة أي التباس بشأن الموضوع، ذكّر باباجان بدور قطر (الرئيسة الحاليّة لمجلس التعاون) في اتفاق الدوحة بشأن لبنان في أيار الماضي، وبوساطة بلاده بين سوريا وإسرائيل، كأنه يحاول القول «إنّنا وإياكم الوسيطان الأقوى في المنطقة، وعلينا التصرّف بهذه الصفة».
التباس كان من الضروري أن يُزال، بما أن التعليقات الأولى على توقيع المذكّرة أشارت إلى احتمال أن تثير انزعاجاً إيرانيّاً بالغاً، فجاء كلام رئيس وزراء قطر حمد بن جاسم ليؤكّد أنّ «التقارب التركي الخليجي ليس له علاقة بمسألة ميزان القوى في المنطقة»، في إشارة منه إلى عدم وجود رغبة في تطويق إيران.