إدانة سياسيّة بخرق العلمانيّة وعقوبة ماليّة رمزيّة ودعوة قضائيّة إلى تعديل الدستور مرّة جديدة يخرج رجب طيب أردوغان من معاركه منتصراً. عدم حظر حزب «العدالة والتنمية» يفتح الطريق أمام تركيا للقطع مع تاريخها العسكري ـــ العلماني المتشدّد. فمتى يعدّل أردوغان الدستور وهو المدعوّ رسمياً إلى ذلك؟لم يُحظَر حزب «العدالة والتنمية»، ولم يُمنَع قياديّوه من مزاولة العمل السياسي. صدر قرار المحكمة الدستوريّة بشأن دعوى المدّعي العام عبد الرحمن يالتشينكايا أول من أمس، لينهي أحد أخطر الكوابيس السياسية الذي عاشته تركيا بحبس الأنفاس منذ 14 آذار الماضي.
حرمان الحزب الحاكم نصف التمويل العام يُعَدّ عقوبة رمزية وأكثر من مخفّفة. كلّ ما جاء في قرار القضاة الـ11 حمل جديداً. على سبيل المثال، فقد جاء في كلام رئيس المحكمة حازم كيليش، في تلاوته للقرار، ما يؤشّر إلى توجّهين في العلاقة المستقبلية بين إسلاميّي تركيا المعتدلين وقوميّيها المتشدّدين.
فمن جهة، حثّ كيليش «العدالة والتنمية» وجميع القوى السياسية على الإسراع في تعديل الدستور بما يصعّب آليّة حظر الأحزاب، «تحاشياً لرفع دعاوى مشابهة في المستقبل».
نصيحة ستؤدي، لو جرى العمل بها، إلى رسم نظام دستوري جديد في البلاد من دون سطوة محكمة فائقة الصلاحيات تُعدّ الرقيب المسلَّط فوق رأس الحكومة ورئاسة البلاد وممثّل الشعب، أي البرلمان حتّى.
ولمّا كانت النصيحة لا تكفي، ذهب كبير القضاة بعيداً، فلام الحزب الحاكم على «عدم سيره قدماً في خطوة تعديل الدستور التي كانت ستجعل من محاكمة أي حزب وحظره أمراً أصعب».
في المقابل، وصف رئيس القضاة القرار بمثابة «إنذار جدّي» لحزب رجب طيب أردوغان، وبدى واثقاً بأنّ المعنيّ به «سيتّعظ منه ليحرص في سلوكه المستقبلي على عدم المسّ بالأسس العلمانية للدولة». كلام تحذيري وتأنيبي فسّرته بعض الأصوات المنزعجة من القرار، بأنه مقدّمة لمعركة جديدة بين الطرفين.
بدا واضحاً أنّ القرار لا علاقة له بمعايير قانونيّة، بل إنّه انعكاس لميزان قوة كرّسه الإسلاميون لمصلحتهم بصبر طويل ونفَس أطول، ولو كان ذلك على حساب خسارات موضعيّة مُنوا بها، أبرزها رفض المحكمة الدستورية السماح بارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات.
كل ما جاء على لسان كيليش يستحقّ التمحيص. فقد كشف الرجل عن أنّ 6 من زملائه صوّتوا لمصلحة الحظر، و4 فقط وقفوا ضدّه، وأيّدوا في المقابل فرض العقوبة الماليّة بدل العقوبة القصوى، بينما صوّت وحيداً ضدّ الرأيين، وأنه كان مع عدم فرض أية عقوبة على الحزب.
وإذا كان هناك من درس يمكن استخلاصه من أزمة الحكم التي طالت في أنقرة، فهو قد يكون أنّ معادلة جديدة وُلدت هناك، قائمة على إنهاء العهد الذي كان فيه العسكر والأحزاب العلمانيّة المتشدّدة يملكون القدرة الفائقة على القيام بأيّ إجراء، أكان عبر انقلاب عسكري أو قضائي، من خلال المحكمة الدستوريّة ومجلس التعليم الأعلى خصوصاً.
عهد جديد لخّصه كيليش أيضاً بعبارة بالغة الدلالة قال فيها: «نؤمن (نحن القضاة) أنّ جميع قطاعات المجتمع يجب أن تبذل جهوداً لإرساء قواعد يستطيعون فيها العيش معاً بسلام من اليوم فصاعداً».
وفي السياق، وردّاً على أسئلة الصحافيّين، مرّر كيليش ملاحظة قد تشير من دون لبس، إلى أنّ القرار المخفّف جداً الذي صدر، اتّخذته أعلى مرجعيات مراكز القرار العلماني والعسكري. فالقرار صدر بناءً على الرأي الاستشاري الذي قدّمه مقرر المحكمة عثمان كان في 16 تموز الماضي. ملاحظة تصبح ذات دلالة كبيرة للغاية عندما ندرك أن عثمان كان، هو نفسه من قرّر إلغاء تعديل الحجاب، ثمّ عاد ليقرر منع حظر الحزب في قرار سياسي بامتياز.
عودة إلى القرار القضائي الذي يتفق معظم المراقبين على بعده السياسي وفراغه القانوني (للتذكير فإنّ معظم الأدلّة التي وردت في دعوى يالتشينكايا مستقاة من موقع «غوغل» الإلكتروني)؛ إنّ حرمان الحزب نحو 20 مليون دولار يتلقّاها من خزينة الدولة سنوياً لا قيمة مادّية له. لكنّه إدانة سياسية بارتكاب تجاوز سياسي ـــ قضائي لم يجد أردوغان ضرراً في الاعتراف بارتكابه، ربّما انسجاماً مع اعتداله ودبلوماسيته وبراغماتيته المعهودة. اعتراف أدلى به عشية صدور الحكم، ثمّ كرّره في تعليقه على حيثيّاته، وأضاف إليه بعداً أكثر إيجابية وسط احتفالات مناصريه، عندما شدّد على أنّ حزبه سيحترم بشكل كامل قواعد العلمانية وقيم الجمهوريّة.
لا شكّ أنّ الحسابات التي أجراها القضاة والساسة من خلفهم قبل إصدار حكمهم، راعت عدداً من المعطيات الداخلية والخارجية، أبرزها الدفع الشعبي الكبير الذي يدعم «العدالة والتنمية» والنمو الاقتصادي الذي حقّقه خلال عهده، كذلك القيمة الفائقة التي يعطيها الغرب له من ناحية تجسيده لإسلام معتدل قد يمثّل نموذجاً يُحتذى في العالم العربي والإسلامي.
وعلى هذا الصعيد، جاءت الإشادات الأميركية والأوروبية معبّرة عن سرور عواصم الغرب ببقاء فريق عمل أردوغان شريكاً استراتيجياً يعمل في أجواء مستقرّة.
القرار السياسي ــ القضائي للمحكمة، يشبه السياسة التي اتّبعها أردوغان وحكومته. فعنوان الحكم يمكن أن يكون «الحلّ الوسط». كان أمام القضاة حلّ من ثلاثة: إما تبرئة الحزب، أو إدانته وبالتالي حظره، أو ثالثاً ــ وهو ما حصل ــ إدانته وتبرئته في آن معاً. إدانته لتحذيره، وتبرئته لحثّه على تعديل الدستور. وقد تكون هذه الدعوة المرة الأولى في التاريخ حيث يستعجل القاضي نزع الصلاحيات من بين أياديه.
نال حزب أردوغان «البطاقة الصفراء» بلغة كرة القدم أو آخر تحذير قبل الطرد من ساحة اللعبة. ملامح المرحلة المقبلة وقفٌ على قرارات مصيرية بات أردوغان مدعوّاً إلى اتخاذها في أسرع وقت ومن دون إبطاء، في مقدّمتها تعديل المادة 68 من الدستور لانتزاع الصلاحيات المطلقة من المحكمة الدستورية.
التخمينات قد لا تكون في محلّها لاستقراء المستقبل التركي، لكن الأكيد أن صفحة جديدة فتحها القرار الدستوري لن تشبه المرحلة السابقة.
(الأخبار)