قائد الجيش في تركيا قلّ من ينافسه أهميّةً، أي قائد جيش آخر. إلكر باسبوغ انتقل من قيادة الجيش البرّي إلى رأس القوات المسلّحة، ليرسم ملامح «تركيا الجديدة»
أرنست خوري
لم يكن تعيين الجنرال إلكر باسبوغ (65 عاماً) على رأس القيادة العامة للقوات المسلَّحة التركيّة مفاجأة؛ فالأمر كان محسوماً «مئة في المئة» منذ أشهر، داخل المجلس العسكري الأعلى الذي أنهى أمس مؤتمره الداخلي السنوي، بالتوافق مع حكومة رجب طيب أردوغان والرئيس عبد الله غول.
توافق فرضه الدستور «رمزياً» بما أنّ تاريخ تركيا لم يعرف ولو مرة واحدة، «مجنوناً» يتجرّأ على الوقوف ضدّ إرادة العسكر، حماة العلمانيّة المسوّرة بسياج شبح الانقلابات.
باسبوغ سيخلف ابتداءً من نهاية آب الجاري، يسار بويوكانيت، الاسم المرعب والوجه المتشدّد. إلا أنّه لن يبقى في منصبه أكثر من عامين. فهو سيخرج في 2010 من السلك العسكري إلى التقاعد. ومنذ اليوم، بات معروفاً أنّ من سيرث مقعده سيكون القائد الحالي للقوات البرية الجنرال إسيك كوسانر.
شخصيّته إشكالية بامتياز: صامت وهادئ الطباع. قارئ نهم ومتابع يومي لإصدارات الصحف ومراكز الأبحاث. منظّر لمشروع حلف شمالي الأطلسي الذي تخرّج من مدارسه الحربية قبل عقود. علماني حتّى العظام طبعاً. يتقن الانكليزية من خلال عمله لست سنوات في السلك الدبلوماسي.
أمّا في السياسة، فقد حامت شكوك كبيرة حوله أخيراً، عندما التُقطَت له صورة وهو يصلّي على حائط البراق في القدس المحتلّة. أصلاً هو محامٍ قوي «للتحالف الاستراتيجي» بيت بلاده وإسرائيل.
داخلياً، يكاد يقتله همّه الأكبر: حزب «العمّال الكردستاني» الذي يسيطر على المنطقة التي وُلد فيها، أفيون كاراهيسار في جنوب شرق البلاد. همٌّ ترجمه في شباط الماضي عندما أمر بشنّ أعنف حملة على الحزب الكردي لم يشهدها الصراع بين الطرفين منذ عقد.
الرجل محبوب للغاية من دوائر القرار العسكري في الغرب. وقد رصدت الصحافة التركيّة عدداً من آراء الخبراء العسكريين الأوروبيين التي تجمع على أنّ باسبوغ «صاحب قدرة على التحليل الاستراتيجي تفوق تلك التي يتمتّع بها سلفه» بويوكانيت.
أما عن العلاقة المتوقّعة مع حكّام أنقرة الإسلاميين المعتدلين، فالموضوع لا يزال غير واضح تماماً؛ فبينما أشارت الصحف العلمانيّة («حريات» أهمها) إلى أنّ باسبوغ آتٍ بنيّة التهدئة وتغيير الاستراتيجية العسكرية المتشدّدة تجاه المدنيين، أصرّت صحف «زمان» و«وقت» المقرّبتين من «العدالة والتنمية» على استبعاد حصول أيّ تغيير جدّي في سلوك العسكر.
«حريات» جزمت بأنّ باسبوغ «يبدو مختلفاً عن سلوك سلفه» من ناحية أنه أكثر اعتدالاً من بويوكانيت، وأنه مصمّم «على الإبقاء على اتصالات عميقة مع الحكومة، وعلى نسج علاقات جيدة معها والابتعاد عن أي نقاش سجالي عبر الإعلام».
أكثر من ذلك، فبحسب افتتاحية الصحيفة، فإنّ باسبوغ قرّر «إبعاد الجيش عن السياسة» قبل أن تستدرك وتذكّر بأنّه سيكون غريباً جداً إذا صمتت مؤسسته في حال المسّ بالثابتين المقدّسين: وحدة الأراضي التركية وقيم العلمانيّة!
أمّا أبرز ما كشفت عنه «حريات»، فهو تلميحها إلى تسوية حصلت بين باسبوغ ورجب طيب أردوغان تقوم على تقسيم الأدوار بين الحكومة والعسكر، بشكل يكون فيه الرأي الحاسم في أمور الحرب والسلم والقضايا الخارجية الاستراتيجية حكراً على الجيش، بينما يُترَك هامش واسع من الشأن الداخلي للحكومة والإسلاميين المعتدلين... طبعاً في ظل احترام «مقدّسات» الجيش.
أغلب الظنّ أنّ عبارة «أمور الحرب والسلم والقضايا الخارجية الاستراتيجية» يُقصَد منها أولاً القرار العسكري تجاه الثوّار الأكراد، وثانياً نوعية العلاقة المميزة مع تل أبيب والتعاون العسكري معها ومع «الحلف الأطلسي» و«الصديق الأميركي». تنسيق قد يجد طريقه إلى التطبيق وخصوصاً أنّ باسبوغ يبدو أكثر من سلفه، غربي الهوى ولا يمانع من أن تؤدّي بلاده دوراً استراتيجياً مركزياً، أكان في الشرق الأوسط، أم حتّى في النادي الأوروبي مستقبلاً.
تركيا دخلت مرحلة جديدة بعد نجاة الحزب الحاكم من حظر المحكمة الدستورية. نجاة لم تكن لتتحقق لولا واقعية أردوغان. براغماتيّة يبدو أنه وظّفها جيداً حتى في تأقلمه مع تعيين باسبوغ رغم أنّ أردوغان كان يفضّل حلول قائد سلاح الجوّ أيدوغان بابا أوغلو مكانه. أردوغان حنى رأسه لكي لا تقتلعه العاصفة. أما باسبوغ فأمامه كمّ من الهموم بدءاً من تنظيف سمعة جيشه من لوثة رعاية وتأسيس عصابات ERGENEKON، وصولاً إلى تهدئة المخاوف من توتّر سياسي جديد، وبالتالي «ترويض» الجيش والحدّ من تدخّله في تفاصيل السياسة والقضاء... كل ذلك لأنّه لا بدّ أن يدرك الرجل أنّ دوراً هائلاً ينتظر تركيا على الساحة الإقليمية والعالميّة شرط توفّر الاستقرار الداخلي.