أعادت حادثة منع تركيا سفناً أميركية من الوصول إلى جورجيا عبر البحر الأسود، ملفّ أمن البحر إلى الواجهة من جديد، والفرصة لأنقرة لحسم سيادتها الحصرية عليه
أرنست خوري
تتمتّع منطقة البحر الأسود بقيمة استراتيجية كبيرة، وكانت منذ وقت طويل حجر زاوية بالنسبة للأمن القومي والإقليمي التركيين، بما أنّ أي إخلال بالحصرية التركية على مراقبة سواحل هذا البحر والإشراف عليها، سيقضي على أهمية تركية استراتيجيّة لا تُعَوَّض، منحتها إياها الطبيعة والحتمية الجغرافية.
ولهذه الغاية، عُقِدَت الاتفاقات والمعاهدات التي رعاها القانون الدولي والأمم المتحدة، التي تركت لأنقرة الهامش الأكبر من حقّ الملاحة العسكرية فيه، وإعطاء الأذونات لأساطيل الدول في التجوّل فيه، رغمّ أنّ 5 دول أخرى تطلّ على هذا البحر (بلغاريا وروسيا وأوكرانيا ورومانيا وجورجيا).
أبرز تلك الاتفاقات: معاهدة «مونترو» عام 1936، وتحصر حقّ السماح بمرور السفن عبر مضيقي البوسفور والدردنيل (مدخلي ومخرجي البحر الوحيدين على بحر إيجيه والمتوسّط، ويخترقان مدينة اسطنبول التركية) بأنقرة. و«operation black sea harmony»، عملية أطلقتها تركيا في 2004، بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي رقم 1373 و1540 و1566، وتسلّمت بموجبها وبمشاركة الدول المطلة على البحر، مسؤولية حماية منطقة البحر الأسود من المخاطر الإرهابية. وفي عام 2006، انضمّت روسيا إلى التحالف الذي هو عبارة عن اتفاق على تسيير وتنظيم مناورات وأساطيل للسفن دائماً، تشبه «Operation Active Endeavour» التي يتسلّم بموجبها أسطول حلف شمال الأطلسي أمن البحر المتوسّط.
وتتفاخر تركيا بحقيقة أنه منذ انطلاق العملية في عام 2004، لم تشهد المنطقة أي خطر إرهابي. حجّة تُستعمَل دائماً لتبرير معارضتها جميع محاولات تعديل معاهدتي «مونترو» و«operation black sea harmony».
وجاءت حرب القوقاز لتمثّل التحدّي الأكبر بالنسبة لحكّام أنقرة في هذا الخصوص. وتركيا، العضو الفاعل في الحلف الأطلسي، واجهت إشكالية في التوفيق بين الموقف الغربي الداعم لتبليسي في حربها مع الدب الروسي من جهة، ورغبتها في الحفاظ على موقع محايد عن الطرفين تمهيداً لإطلاق تحالفها «من أجل القوقاز» تكون أنقرة النواة الصلبة فيه.
وأمام الحماسة الأميركية لمناصرة حليفها الجورجي، والمصحوبة بغياب الإمكان والرغبة في خوض مواجهة تتخطّى الطابع الدبلوماسي مع موسكو، حاولت تحريك أسطولها سريعاً، لنقل ما أمكن من مساعدات، قيل إنها لم تخلُ من السلاح، لحليفها المجروح. ولهذه الغاية، لم يكن أمامها بديل من اللجوء إلى مياه البحر الأسود. عندها، وجدت أنقرة الفرصة مناسبة لتوجيه رسالة إلى أكثر من طرف لإعادة تذكير العالم بأنّ مفتاح البحر الأسود لا يزال، وسيبقى، بين أيديها وحدها، ومنعت بالتالي السفن الأميركية بحجّة «خرق معاهدة مونترو».
الهدف التركي كان واضحاً: رغبة بعدم تأجيج الحرب عبر السماح بإدخال سلاح أميركي (أو إسرائيلي) إلى جورجيا، وتكريس تركيا نفسها نهائياً وكيلاً حصرياً لأذونات الدخول إلى بحرها.
وبعد حادثة المنع بيومين فقط، سمحت تركيا بدخول 3 سفن أميركية لا تحمل سوى مواد غذائية ومساعدات إنسانية «بموجب معاهدة مونترو» نفسها، وهو ما يغضب موسكو على جميع الأحوال. وبحسب مصدر دبلوماسي تركي تحدّث لصحيفة «زمان»، فإنّ التصرف التركي (المنع ثمّ السماح في ما بعد) أُريدَ منه «توجيه رسالة قوة» إلى كل من واشنطن وموسكو. وبحسب مصدر آخر، فإنّ «واشنطن، التي تسعى جرياً على عادتها لطلب المستحيل لنيل الحدّ الأقصى بعد التفاوض، أرادت من خلال محاولتها إيصال السفن الاستشفائية العسكرية إلى الجورجيّين، تحدّي موسكو والضغط عليها»، لذلك رفضت أنقرة السماح لها بالوصول إلى مبتغاها.
وعند الحديث عما جرى في اليومين الماضيين، يستذكر المصدر التركي مسألة رفض بلاده تكوين تحالف أطلسي يجري مناورات دائمة في البحر الأسود على غرار «Operation Active Endeavour» المتوسطية، في مقابل إعراب تركيا عن استعدادها لمشاركة الحلف المعلومات الأمنية والاستخبارية التي يحتاج إليها، وهو ما «لم يرضِ واشنطن» على حدّ تأكيد دبلوماسي تركي آخر.
وآخر مرة أُثيرَت فيها قضية الحصرية التركية في السيادة على البحر الأسود، كانت يوم الثلاثاء الماضي في اجتماع وزراء خارجية دول الحلف الأطلسي، حيث استطاعت أنقرة «أن تقنع حلفاءها بأنه من مصلحتها ومصلحتهم إبقاء مياه البحر الأسود هادئة ومسالمة، وعدم تحويلها إلى عنصر توتّر إضافي في الحرب عبر دعم جورجيا عسكرياً» على حدّ تعبير دبلوماسي تركي ثالث تحدّث للصحيفة المذكورة. ويبدو أنّ إحجام الحلف الأطلسي عن وضع «جسر جوّي» لدعم جورجيا، جاء لترجمة النظرية التركية الساعية وراء تهدئة أراضي جيرانها.