عام واحد مرّ على ولاية الرئيس عبد الله غول، بدا وكأنه أطول بكثير من 12 شهراً. زحمة تطوّرات تعامل معها بغريزة الشجيرة التي تنحني للعاصفة كي لا تكسرها... في سلوك يتناسب مع عصر يشهد ولادة تركيا جديدة
أرنست خوري
لم ينسَ الرئيس التركي عبد الله غول أنه شغل يوماً منصبي رئيس الوزراء ووزير للخارجيّة قبل أن يصل إلى قصر شنقايا قبل عام من اليوم (28 آب 2007)، فقرّر أن يكوّن في شخصيّته الرئاسيّة، سلوكاً يجمع ما يجدر أن يتمتّع به شاغل هذين المنصبين من دون الاعتداء على صلاحيّتهما.
قد يكون غول قد ضرب الأرقام القياسيّة خلال عهده، في مواضيع شتّى؛
داخليّاً، سجّل انطلاقة لمقاربة جديدة في الانفتاح على المعارضة السياسيّة. طلب لقاءات عديدة من قادتها، غير أنّ رئيس حزب الشعب الجمهوري دنيز بايكال رفض اللقاء، واكتفى باجتماعين سريعين مع الرئيس.
كذلك شبَك علاقات مع العلويين لم يجرؤ أحد أسلافه عليها. غزل لم يقابله آخر تجاه الأكراد الذين ظلّوا خلال عامه الأوّل مواطنين درجة ثانية. ومدّ غول جسور التعاطي المباشر مع مواطنيه، عبر تفعيله لمكتب شكاوى مفتوح للعامّة تلقّى في عام حكمه 14000 عريضة مطلبية ومعيشية وخدماتية وقضائية، في محاولة لتصوير نفسه رئيساً شعبياً.
كما حضر عدداً هائلاً من الاحتفالات الشعبية، وزار عدداً كبيراً من المناطق، واستقبل العشرات من المثقّفين والفنّانين في مكتبه الرئاسي متخليّاً عن الصورة النمطية التي رُسمَت عن خليفة أتاتورك العابس والمفرط في الجديّة الذي لا يعرف كيف تكون الابتسامة.
في الحياة السياسية المحليّة المستعرة خلال العام الماضي، أبقى غول مسافة بينه وبين الجدل العلماني ــ الإسلامي الذي كاد ينفجر مأساوياً لو حُظر الحزب الحاكم بموجب دعوى عبد الرحمن يالتشتينكايا التي طلبت منع الرئيس أيضاً من مزاولة العمل السياسي.
وكادت تغيب التعليقات الصادرة عن الرئاسة المستهدَفة من قبل عتاة العلمانيين المدعومين من العسكر، لتكرّس ما قاله غول في خطاب القسم: «سأعانق جميع المواطنين من دون أي تمييز بينهم وسأبرهن حيادي لضمان أكبر قدر من العمل المؤسساتي المتناغم».
حتّى إنّ غول لم يعترض على قرار المحكمة الدستورية عندما ألغت التعديل الدستوري الذي رفع الحظر (جزئياً) عن ارتداء الحجاب الإسلامي، تاركاً هموم التعديلات الدستورية الهادفة إلى انتزاع بعض الصلاحيات من العسكر، ملقاةً على عاتق رجب طيب أردوغان وحكومته.
خارجياً، حاول غول إرساء تقليد يجعل من الرئيس، المسيِّر العام للدبلوماسية التركيّة، من دون أن يقطع الطريق على شريكه وزميله ورئيس حزبه أردوغان، فألّف الاثنان ثنائياً متناغماً في الشؤون الخارجيّة، مع بقاء الوجهة التي تحدّد الخطوط العامّة محصورة في قصر شنقايا.
وحقّق غول قطيعة تاريخية مع نهج أسلافه، وخصوصاً أحمد نجدت سيزر في ما يتعلّق بفكّ العزلة عن القصر الرئاسي في الشؤون الخارجيّة، فاستقبل الرئيس الحالي خلال عام واحد، أكثر من 20 رئيس دولة، أبرزهم جلال الطالباني، ومحمود أحمدي نجاد وبشّار الأسد والملكة البريطانية اليزابيت وعدد منهم يطأ أرض تركيا للمرة الأولى.
بحث غول عن المؤتمرات الدولية لتستقبلها أنقرة، فجاءت قمم منظّمة المؤتمر الاسلامي، ومؤتمر دول جوار العراق، والقمّة التركيّة ــ الأفريقيّة.
كما سجّل غول في رصيده زيارات «نوعيّة»، كان أبرزها إلى واشنطن. أمّا زيارتاه إلى بكين وموسكو فيُرَجَّح حصولهما في الأشهر الأولى لعام 2009.
ويجمع المراقبون على تقسيم السياسة الخارجية التركية النشطة والتي ابتدعها غول وأردوغان ومن خلفهما «كيسنجر تركيا» أحمد داوود أوغلو، إلى 4 جبهات: علاقات متوازنة وحارّة مع الدول العظمى. إعادة إحياء للتواصل المباشر مع ولايات الدول العثمانية السابقة. تنسيق حيوي مع دول الجوار، وتثبيت تركيا دولةً راعية للسلام (وساطتها بين إسرائيل وسوريا، وبين الغرب وإيران، ومبادرتها القوقازية، وعرض نقل وجهات النظر بين المحكمة الجنائية العليا ونظام الرئيس السوداني عمر البشير...). وبقيت انتقادات المعارضة لحكم «العدالة والتنمية» لا تُحصى، إلا أنّ عدم استهدافها لدور أنقرة إقليمياً وشرقاً أوسطياً وعالمياً خير معبّر عن أنّ الدور التركي الدولي اجتاز خطوات هائلة لتكريس البلاد رقماً صعباً في الشرق الأوسط ووسط آسيا والقوقاز بانتظار أن تأخذ دورها الكامل في أوروبا.
هي أوروبا التي قد تكون الملفّ الذي حقّق فيه غول أقل قدر من التقدّم. لكن الأكيد أنّ الإخفاق الأوروبي في عهد غول لا يتحمّل الرجل مسؤوليته، إذ إنّ العام الماضي عرف ظروفاً موضوعية تعجيزية بالنسبة إلى دخول تركيا النادي الأوروبي: من انتخاب نيكولا ساركوزي رئيساً لفرنسا، مروراً بتأسيس «الاتحاد من أجل المتوسّط» الذي رأى كثر فيه مجرّد منتدى بديل قادر على استيعاب دول راغبة بالعضوية الأوروبية كتركيا، وصولاً إلى أزمة معاهدة لشبونة وأزمة القوقاز... كلها تجعل من عضوية تركيا في أوروبا موضوعاً قيد التأجيل رغم كل ما نفّذته حكومة غول من إصلاحات قضائية ودستورية وقانونية لتسريع بتّ الفصول الـ 35 العالقة.