إنه صيف حار في مصر. فتنة في الصعيد. وخطة تأديب الصحافة المشاغبة ومنع الصحف الجديدة. أزمات في «الإخوان». وعلى السطح تبدو أجهزة الأمن سعيدة ومنتصرة بشكل ما. لكن ما الذي يخفيه الصيف الحار تحت السطح الهادئ؟
وائل عبد الفتاح

الصحافة المستقلة إلى بحر الرمال الصورة عنيفة وقاسية وكانت محاولة لتفسير الرد الجاهز «إنها خنقة». هو ليس مجرد غضب، فالغضب على نظام مبارك قديم وعميق. وربما محبط. لأنه غضب في مواجهة نظام فاتر. يمتص معارضته. ويغرقها في بحر رمال كبير. لكن ما يحدث في مصر هو محاولة، مجرد محاولة، للخروج من لزوجة بحر الرمال.
وما يحدث في الأيام الأخيرة هو خطة العودة إلى بحر الرمال. بدأت بإعادة «الإخوان المسلمين» إلى مربع الدعوة في المساجد والنشاط السري. والآن جاء دور الصحافة المستقلة. لا بد من إعادتها إلى مرحلة القلق الوجودي.
الصحافة المستقلة، وبعدما بنت قواعد وجودها الطبيعي، تجد نفسها في مواجهة معركة موت وحياة. المعطيات تقول إن هناك قراراً غير معلن بعدم إضافة صحف جديدة إلى حين إعادة ترتيب أوضاع الصحف الموجودة. قرار منع التراخيص لا يسري هذه المرة على صحافة تبدو من هيئتها أنها معارضة، بل أيضاً على صحافة يصدرها أهل ثقة النظام نفسه.
المثال الأوّل أسبوعية «اليوم السابع». تصدرها مجموعة رجال أعمال غير مشهورين إعلاميّاً، وهو ما كان مادة خصبة لشائعة عن أن المموّل الخفي هو الملياردير ممدوح إسماعيل، الهارب في لندن من تهمة إغراق ١٠٠٠ مصري في عبّارة تملكها شركته. لكن الحقيقة الأقرب أنها ليست أموال الهارب، ولكنها مساهمات يأتي في مقدمتها اشرف الشريف، الابن الأكبر لصفوت الشريف، الأمين العام للحزب الوطني الحاكم وأحد الأعمدة الرئيسية للنظام. وابنه هو صاحب شركة إعلانات أشيع كثيراً عن احتكارها لحصّة الأسد في إعلانات التليفزيون خلال فترة تولّي أبيه وزارة الإعلام (استمر ٢٢ عاماً في رقم قياسي من الصعب تجاوزه).
صفوت الشريف الآن هو رئيس مجلس الشورى، ويرأس أيضاً، بحكم المنصب، المجلس الأعلى للصحافة، مانح تراخيص الصحف. ولم تحصل «اليوم السابع» على ترخيص، وهو ما يشير إلى أن القرار هذه المرة أعلى من مستوى صفوت الشريف، وقد يكون من الرئيس نفسه أو جهاز من الأجهزة المهيمنة على القرار.
عدم منح ترخيص لـ«الشروق» إشارة أخرى. هي مشروع للناشر إبراهيم المعلم، عضو لجنة السياسات في الحزب الحاكم، والعضو القوي في مجلس إدارة النادي الأهلي، أي إنه شبكة علاقات بين المؤسسات القوية في مصر (رياضية وثقافية وسياسية، إضافة إلى الأعمال). المعلم اختار ٥ رؤساء تحرير ليوميته الجديدة. ليس بينهم من عليه خط أحمر.
قرار منع التراخيص عُلوي، وهدفه توقيف إضافة صحافة جديدة قبل الانتهاء من تصفية المرحلة الأولى وإعادتها إلى أقرب نقطة من مربع «هامش الحرية» الذي يمنحه ويعطيه النظام على مزاجه، في الوقت الذي يريد أن يقول فيه للعالم إنه نظام ديموقراطي.
كانت هذه رغبة النظام عندما طلبت منه القوى التي تحميه في العالم «التغيير» والخضوع لبرنامج «الإصلاح السياسي». القوى هي أميركا المرعوبة منذ 11 أيلول لأنها اكتشفت أن الأنظمة التابعة لها تحولت إلى مصانع للإرهابيين. أميركا طلبت أن يفلت النظام قبضته قليلاً. تردّد النظام واستجاب للضغوط، بعدما اقتنع بأن الأمر في النهاية بيده، وأن الطريق مسدود ما دام يسيطر على كل شيء.
هذه كانت رغبة النظام: حرية تحت السيطرة، ومعارضة مصنوعة بإرادته وتحت إدارته المباشرة. القبضة كانت قوية، لكن الصحافة بطبيعتها الخاصة خرجت عن السرب أكثر قليلاً مما هو مسموح. باختصار «خرجت عن النص». لم تعد صحافة سمعاً وطاعة. وبالمعنى الأوسع: لم تعد الصحافة تنتظر اتصالاً من الرئاسة لتكتب. لم تعد هي المنصة التي يطل منها الرئيس المقدّس على شعبه.
تحركت الصحافة خطوات خارج الخطوط الحمراء، وبحثت عن وظيفتها المنسية: صوت المجتمع وكشّافات الإضاءة التي تساعده على اقتحام المناطق المعتمة. أصبحت مستقلة عن إدارة النظام، لكنها ليست بعيدة عن أياديه الطويلة. وبعد مواسم طويلة من الصحافة القبرصية (الحاصلة على تراخيص من الخارج وتطبع في القاهرة) تكونت شركات مستقلة بعد قانون يسمح بها في سنة ١٩٩٨. لكنها تحصل على تراخيص من المجلس الأعلى للصحافة، وهو مجلس حكومي يخضع لأهواء النظام، وعادة ما تحسم الاتصالات والاتفاقات قرار المنح والمنع وتعطي التراخيص وفقاً لتوازنات لا يعلمها إلا نخبة إصدار القرار.
مؤشر منع التراخيص الجديدة يتزامن مع سيناريوات أخرى للتعامل مع الصحف الأقدم. التأثير على لوبي المصالح في بعض الصحف أو شراء أخرى. وتردد أخيراً أن عصام فهمي، مالك يومية «الدستور» وأسبوعية «صوت الأمة»، قد باع الأخيرة سرّاً لواحد من أباطرة المال في الحزب الحاكم. كان قد عرض الشراء من فترة وفشلت الصفقة، لكن اسمه يعود اليوم مع اختيار محمد حسن الألفي، رئيس تحرير «الوطني اليوم» صحيفة الحزب الحاكم، ليرأس تحرير «صوت الأمة» المشهورة بمزاجها المعارض.
الشراء والتهديد بالحبس (كما يحدث الآن مع رئيس تحرير «الدستور» إبراهيم عيسي) أو إغراق صحف أخرى في جنة الإعلانات. هذه ملامح خطة لإعادة الصحافة المشاغبة والخارجة عن المعارضة المنضبطة إلى بحر الرمال.

الموت على أبواب المستشفيات

أخبار كثيرة يطالعها المصري عن حالات وفاة في المستشفيات وعلى أبوابها. هي جزء من نظام، سلطة ومعارضة، رافض لأي محاولة تغيير تحت ذريعة «منع التدخّل الخارجي». ذريعة تبقي المواطن رهينة عقلية وسياسات تودي به إلى الموت على أبواب المستشفيات

حوادث الأسبوع مفجعة. انقطعت الكهرباء عن مستشفى المطرية الجامعي (شرق القاهرة) فمات ٤ أطفال في الحاضنات. مأساة تابعها المصريون بألم على الشاشات وهم يلعنون الحكومة. النائب العام قرر التحقيق والمطالبة بإقالة وزير الصحة لأنه في عام واحد مات ٥٢ مريضاً في المستشفيات الحكومية بسبب الإهمال.
الحكاية الأخرى أكثر إيلاماً في منطقة مختلفة. رجل مات لأن مستشفى حكوميّاً في أمبابة (جنوب القاهرة) رفض علاجه إلا بعد دفع ٥٠٠ جنيه (أقل من ١٠٠ دولار). انفجرت رئته لترتفع درجة المأساوية في القصة التي ستنتهي أيضاً بلعنات للحكومة.
لماذا تتكرر حوادث الموت على أبواب المستشفيات؟ قبل أيام قليلة طردت إدارة مستشفى سيدة وهي في مرحلة الإعداد لعملية جراحية، لأنها لم تدفع النفقات الخيالية. كما أنّ مستشفى الكلى الحكومي في مدينة المنصورة، الذي كان مفخرة شعبية، ومديره اليساري الدكتور محمد غنيم، كان نموذجاً لعالِم يسخِّر علمه لتقديم خدمة محترمة وفاخرة للفقراء، تعرض لحادث هذا الأسبوع بانفجار غلاياته، ما يشير إلى مصير ينتظر مشروعات تعتمد على مغامرات أفراد بلا ظهير اجتماعي يحميها ويوفر لها الدعم الدائم.
حكايات نهايتها واحدة: لعنة الحكومة والإهمال معاً. لكن هناك حقيقة غائبة ووعياً مزيفاً. الحقيقة هي أن هذه الحوادث طبيعية وعادية، ليس فقط بسبب سياسات حكومية تتعامل مع حق الفقراء على أنه منحة أو انحياز لخدمات الأغنياء، لكنها أساساً بسبب غياب قيمة احترام حياة الفرد واعتباره مجرد جندي في جيش اجتماعي.
التقرير الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية، الذي نشرته صحف مستقلة، يتهم مصر بالاتجار في البشر (خصوصاً النساء والأطفال). الأرقام مخيفة: مليون طفل مستخدمون في شبكات دعارة. والحقائق كذلك: مصر تتعامل مع أطفال الشوارع على أنهم مجرمون، كما رصدت اعتداءات جنسية عليهم في مراكز الشرطة.
الحقيقة أن النظام الاجتماعي والسياسي في مصر لا يعترف بحق الفرد في الحياة. النظام السياسي يطرد المشاغبين ويعدّهم «قلّة منحرفة» معتمداً على فكرة أنه محتكر للإجماع السياسي. يوازيه نظام اجتماعي يطرد المختلفين دينياً واجتماعياً. نظام أكثر قسوة. أسير العادات والتقاليد.
هكذا وجد «الإخوان المسلمون» قانون الطفل (تشهد مصر مناقشات عنيفة بشأنه هذه الأيام) خضوعاً للأجندة الأميركية. وهي تهمة يوجهها النظام السياسي للمعارضة المطالبة بالإصلاح السياسي.
كأن التغيير هو مشروع خارجي والداخل بلا مطالب. بلا أجندة. وهذا نجاح كبير للسلطة بوجهيها (السياسي والاجتماعي). المجتمع في مصر بلا مشروع مضاد. أجندته عشوائية ومتضاربة. فالقانون المرفوض يريد أن يمنح حق الطفل في الحصول على نسب وحق المرأة في الدفاع عن جسدها ضد جريمة الختان وحق الصغير في حمايته من عائلات تراه ملكاً خاصاً تفعل به ما تريد. هذه ليست سوى قيم لاحترام حق الفرد في الحياة واحترام حريته الشخصية إلى درجة مقدسة. يسري هذا أيضاً على الأطفال المطرودين من جنة العائلات الدافئة (تقترب أعدادهم الآن من مليون طفل، وهم على وشك تقديم جيل جديد ولد وعاش وسيعيش بعيداً عن الجيش الاجتماعي). الوعي الزائف يرى أن الفرد ضد الجماعة، وأن الحرية الشخصية ترف في غياب الحريات العامة. وعي رائج في مجتمع تتنازعه قوى ضد التغيير. تريده مستسلماً لاستمرار عاداته السياسية والاجتماعية كأنها قدر، ويسميها الدعاة «خصوصيتنا المختلفة عن الغرب». هذا ما اتفق عليه الحزب الحاكم والجماعة المعارضة. واتفاقهم لم يكشف فقط التماثل بينهما، بل إن التغيير لن يحدث في مصر إلا عندما يصبح الفرد والحق في الحياة والحرية الشخصية هي المركز العام للتغيير.
من دون هذا سيصبح التغيير مثل الموت على أبواب المستشفيات.

ترسانات السلاح السرية الخطر في تجريدة أبو فانا أنها تبحث عن سلاح في الدير. وهي ليست المرة الأولى، فقد كانت هناك معلومات عن مخازن أسلحة في الكنائس خلال فتنة الكشح التي قتل فيها (سنة ١٩٩٩) ٢١ قبطياً، وكانت أعنف مواجهات بين المسلمين والمسيحيين في الصعيد.
البحث عن سلاح في الكنائس علامة سياسية، بينما السلاح في الصعيد عادة اجتماعية. السلاح شرف الصعيدي. وهذا ما جعل التجريدة المعتادة روتينية ويلزم كل بيت في الصعيد أن يسلم مكتب رئيس المباحث التابع له قطعة سلاح. لا يقبل الضابط أن يقال له: «لا نملك سلاحاً». ولأن نوع السلاح يرتبط بالوضع الاجتماعي، فإن العادة اقتضت أن يحتفظ بالسلاح الأصلي، بينما يشتري نوعاً أقل جودة لتسليمه. وغالباً ما يعاد بيع بعض هذا السلاح في السوق السوداء لمشترين جدد.
أصبحت «التجريدة» تحريكاً لدورة رأس مال تجارة السلاح الممنوعة في مصر منذ سنة ١٩٥٤ إلا تحت إشراف الأجهزة الرسمية. إلا أنه منذ قرار حكومة جمال عبد الناصر، أثناء التصدي للعدوان الثلاثي ١٩٥٦، بتسليم السلاح للمقاومة الشعبية، تحولت التجارة الممنوعة إلى سوق كبير لا تقتصر على المسدسات الصغيرة، لكنها تشمل أيضاً مدافع وآليات حديثة.
تنتعش تجارة السلاح في الأزمات والفتن وتنتشر الترسانات والمخازن. قبل ٥ أعوام، هاجمت قوات الأمن جزيرة «النخيلة»، التي تحول سكانها جميعاًَ إلى عصابة زراعة وتجارة المخدرات. قائدها أدى أدواراً في مساعدة الأمن للقضاء على الإرهابيين، لكنه في المقابل تمتع بحماية أقام في ظلها دولته التي تحرسها ترسانة مكونة من ٧ مدافع طراز «جرينوف» وبنادق آلية ومسدسات سريعة الطلقات وملايين الذخيرة الحية. سقوط «النخيلة» كشف عن ترسانات الأسلحة السرية في الصعيد، لكن لم يعلن اكتشاف مخازن سرية خاصة في الكنائس، رغم أنه في عام واحد اكتشفت الأجهزة الأمنية ٢٧ ألف قطعة سلاح مهربة. بالتأكيد هي وقود الفتن المحتملة ومقرها مخازن لا يعرف الأمن خرائط وجودها.
آخر الأرقام تقول إن السلاح المرخص في مصر لا يتجاوز ١٦٧ ألف قطعة. ولا يقارن الرقم بالسلاح السري الذي يمكن أن يتحول إلى عناصر حسم سياسية في الصعيد أو سيناء، حيث ضبطت قوات الأمن أخيراً كميات كبيرة من الأسلحة والمتفجرات مسروقة من كمائن الشرطة، من دون أن تعلن الجهة السارقة. قد تكون منظمة متطرفة خارج الرصد أو منظمة قديمة تشهد إعادة إحياء أو إحدى توكيلات «القاعدة» النائمة.
لكن الخطر هو سلاح الدفاع عن النفس، سواء من المسيحين أو من جماعات مضطهدة اجتماعياً أو دينياً. السلاح هنا سيكون فعالاً مع إغلاق النظام لمنافذ الحوار والتعبير. السلاح وسوقه سيتحوّلان إلى عنصر من عناصر التغيير المرعبة، لأنه سيكون الحل الأخير أو المتاح أمام انهيار مؤسسات السيطرة والاحتواء.
هل هناك مخازن أسلحة في الكنائس؟ هل تتسلح جماعات سياسية ستخرج من حال بياتها الشتوي الإجباري؟ الفتنة نائمة لكنها ليست بعيدة. ويمكن أن نرى أن هناك سلاحاً يعد الآن للرفع في وجه نظام يغلق الطرق السريعة أمام السجال السياسي ويحاصر معارضيه في حارات ضيقة ويهددهم بالسجن أو الموت البطيء بالعزلة، ولن يكون أمامهم إلا العودة إلى خلايا مهجورة تعلن قوة يمتصها جبروت آلات النظام. وأمام استشراء السلاح في الشوارع، لن يكون بعيداً أن يحسم السلاح ملفات حساسة، بداية من التهميش السياسي لفئات مهجورة مثل البدو في سيناء، وليس انتهاءً بالدفاع عن الكنائس في مواجهة الجنون الطائفي.