صورة المصالح النفطية الأميركية في الشرق الأوسط باتت تشبه شركة حراسة أمنية تتقاضى بين 4 وعشرة مليارات دولار سنوياً لحماية الحقول. وحتى دون اجتياح الحقول، فإن صياح الاستغاثة والتهديد من إسرائيل كافٍ لمنع «الخصوم» من بيع النفط بسعر السوق من دون وسيط أو حارس
نيويورك ــ نزار عبود

قبل التصريح الأخير لنائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، شاؤول موفاز، عن الاستعداد لضرب إيران، كانت أسعار النفط قد هوت من 135 إلى 122 دولاراً للبرميل، إلا أنها قفزت خلال 24 ساعة إلى رقم قياسي جديد تجاوز عتبة 139 دولاراً يوم الجمعة الماضي. هذه هي الخدمة التي تؤديها إسرائيل لضامني بقائها المعتمدين على حقول الشرق الأوسط. تصريح موفاز عصف بسوق النفط المتأثرة بكل خبر سلبي، ولا تركن للخبر الإيجابي.
فعالم يقوده جورج بوش والمحافظون الجدد لا يبدو آمناً. وإذا كانوا يعتقدون بأن إعادة السطوة الاقتصادية إلى أيديهم لا تكون إلا بإعادة الشرق الأوسط إلى كنف استعمار قديم، فإن استيعابهم لنظرية أن التاريخ لا يعيد نفسه ضعيف للغاية.
لو أن العراق ترك وشأنه بعد حرب الكويت في عام 1991 لكان إنتاج العراق النفطي حالياً يتجاوز ضعفي ما هو عليه (2.2 مليون برميل يومياً)، ولما كانت الولايات المتحدة والدول الصناعية مضطرة لاستجداء زيادة إنتاج من السعودية وغيرها. لكن الحرب العالمية على ما يسمى الإرهاب، وكلفتها الباهظة على الاقتصاد الدولي والدولار، جعل العالم يسير نائماً إلى وحش أكبر بكثير من الحروب، إنه وحش المجاعة والعوز. وحش يفرخ نزاعات وحروباً يصعب التكهن بحجمها وتبعاتها.
الغلاء ليس مصطلحاً حسابيّاً ينبت كالفطر من رعد وبرق وسماد عضوي. إنه منتج من عوامل جيوسياسية وأعمال عسكرية وتوجهات استراتيجية تتداخل فيها كل القوى المؤثرة في هذا العالم. والغلاء الذي أفلت من عقاله، يعود بالدرجة الأولى إلى ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية والخوف على استقرار واستمرار إمداداتها في المدى المنظور. وهناك في الأسواق المالية مئات المليارات، بل تريليونات الدولارات التي تدار لحساب أفراد وشركات وحكومات من أجل المحافظة على قيمتها الحقيقية إزاء خطر التضخم. هذه المبالغ لا تعترف بالاعتبارات السياسية والوطنية، بل همّ مديريها الوحيد هو الخروج من إعصار التضخم بأقل خسائر ممكنة. لذا يركبون مركب الطاقة والمواد الغذائية والأولية لأنها حاجات لا تستغني البشرية عنها.
قبل بضعة أشهر، كان الحديث عن سعر البرميل مرتفعاً إلى 200 دولار بمجرد نشوب نزاع وإقفال مضيق هرمز من باب التكهنات المستبعدة. إلا أن الحديث اليوم عن سعر يصل إلى 150 دولاراً الشهر المقبل حتى قبل قدح أي شرارة في المنطقة بات في حكم المسلمات. أمر يحرص الأوروبيون والآسيويون على عدم حدوثه بأي ثمن لأن الأمور لم تعد تحتمل في بلدانهم.
لا عجب والحال هذا أن يحمّل الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف الولايات المتحدة في قمة الدول الإحدى عشرة مسؤولية الفوضى في الاقتصاد العالمي ويتهمها بتخريبه. وروسيا التي لديها وضع اقتصادي تحسد عليه، تجد نفسها في موقع استراتيجي يسمح لها بإسداء النصح وتوجيه اللوم.
عندما قرر فلاديمير بوتين، صانع روسيا الحديثة، إعادة الصناعة النفطية الروسية إلى حضن الدولة، كان يدرك أن الصراع المقبل في القرن الـ21 لن يختلف عنه في النصف الأول من القرن العشرين. أدولف هتلر زحف في أواخر الحرب العالمية الثانية نحو موسكو ليمنع تصديها المحتمل لهجومه على بلدان شرق القوقاز الغنية بالنفط. وقائده رومل حارب في شمال أفريقيا للسيطرة على قناة السويس التي كانت المعبر الرئيسي للنفط. وإذا كان القرن الحالي هو قرن النهضة الآسيوية، فإن المسيطر على سكر مضخات النفط والغاز هو الذي سيتمكن من إدارة قواعد اللعبة الاستراتيجية الدولية الحديثة.
الشرق الأوسط، رغم كل الحروب التي طحنته في السنوات الماضية، يبدو بعيداً كل البعد عن السيطرة الأميركية على مقدراته. فإسرائيل في مرحلة ما بعد حرب تموز 2006 تدرك أن أي حرب في المنطقة تعني تعرض عمقها الجغرافي والديموغرافي للضربات المدمرة. وعليه فإن التهويل بالحرب يبقى في إطار جلجلة الأجراس لإرهاب الخصم. ولهذه الأسباب تحديداً يعتقد الكثير من المحللين أن إسرائيل هي التي تسعى فعلياً إلى منع نشوب صراع في المنطقة حتى لو فكّر المحافظون الجدد في تفجيرها.
تصريحات إسرائيل العدائية لا تحرك وحدها سوق النفط إلى الصعود وتحمل العالم تريليونات إضافية في فاتورة الطاقة. بل هناك تخزين الولايات المتحدة للنفط في احتياطها الاستراتيجي. فالخزينة الأميركية بشرائها وتخزينها للنفط تمثّل رهاناً على أن الأسعار ستبقى مرتفعة، لا بل إنها تساعد في استمرار ارتفاعها بإيجاد طلب إضافي في السوق. والمفارقة الجديرة بالذكر هنا هي أن الولايات المتحدة مضطرة لمنح إسرائيل نفطاً من مخزونها الاستراتيجي لخمسة أعوام في الحالات الطارئة، وذلك بموجب اتفاقية وقعتها في عام 1975. وهذا يعني أن الاحتياط المختزن في الولايات المتحدة يخص إسرائيل بقدر ما يخص الولايات المتحدة.
جمعية حماية المستهلك الأميركية طالبت الإدارة بخطوات عاجلة للسيطرة على الغلاء المتفجر ببيع قسم من احتياط النفط الاستراتيجي الذي تجاوز في مطلع الشهر الحالي 704 ملايين برميل. وتستطيع الخزانات تعبئة 727 مليون برميل في سعتها القصوى. وهو أكبر احتياط نفطي مختزن في العالم. يليه احتياط اليابان البالغ 579 مليون برميل، وهناك احتياط صيني يقل عن 100 مليون برميل.