يمكن الإسهاب في استعراض مراحل تطور المقاربة الإسرائيلية حيال قطاع غزة منذ سقوطه في يد حركة «حماس» قبل عام بالضبط، إلا أنه يمكن أيضاً إيجاز نتائج هذه المراحل بكلمة واحدة هي: العجز

محمد بدير

لم تسقط إسرائيل عن الكرسي وهي تشاهد ألد أعدائها الفلسطينيين وأشدهم خطورة يمسك بين ليلة وضحاها بزمام الحكم في باحتها الخلفية ويعلن قيام ما سمي لاحقاً في الأدبيات الإسرائيلية «حماستان». كان هناك في تل أبيب من راهن على تطويع تداعيات «انقلاب» الحركة الإسلامية في القطاع، بحيث يتاح توظيفها في مصلحة السياسات الإسرائيلية على جبهتي «السلام» والحرب.
في الجبهة الأولى، بُنيت الآمال على أن يدفع ما حدث معسكر التسوية الفلسطيني، برئاسة محمود عباس، نحو الارتماء في حضن إسرائيل على قاعدة التحالف معها في مواجهة العدو المشترك. ما جرى في غزة أوصل الانقسام الفلسطيني، الذي طالما عُد مصلحة إسرائيلية حيوية، إلى درجة الذروة، ولم يكن على إسرائيل سوى أن تعمل على تكريس الحدث أولاً، ومن ثم تثميره في ابتزاز تنازلاتٍ على خط مفاوضات التسوية من جهة، وفي تأليب العالم على «حماس»، من جهة أخرى. باتت الحركة، وما تمثله من رأس حربة لمشروع المقاومة في فلسطين، قضية عالمية، وصار ممكناً، تحت سقف شروط الرباعية الدولية للاعتراف بها، فعل كل شيء تقريباً في الحرب عليها وعلى الرقعة الجغرافية التي تسيطر عليها بمن تحويه من بشر. فالانقلاب الذي نفذته الحركة نزع عنها الشرعية الانتخابية التي واجهت بها العالم وأحرجته، وساعد ذلك في إلحاقها فعلياً بمحور الشر من دون إعلان ذلك رسمياً.
أما في البعد الفلسطيني الداخلي، فعُوِّل إسرائيلياً على أن تؤدي محاصرة حكم «حماس» وإفشال تجربته قبل سقوطه، أو إسقاطه، إلى توجيه ضربة مميتة إلى الحركة ومشروعها وشعبيتها.
هذه المقاربة الإسرائيلية لحدث «الانقلاب» بقيت ضمن إطار الرهانات السياسية ولم ترق إلى مستوى استراتيجية متبلورة تستشرف السيناريوات وتنوع البدائل وفقاً لها. وهكذا، حصل أنه في الوقت الذي كانت فيه ردود فعل تل أبيب حيال «انقلاب حماس» تتلخص بالعمل على استخدامه رافعة سياسية لضرب الحركة والسلطة بحجر واحد، كانت الحركة الإسلامية تستغل كل دقيقة لتعزيز سيطرتها على القطاع وتنمية قدراتها العسكرية من دون حدود.
وعندما استفاقت إسرائيل على مرارة فشل رهاناتها الأولى، كان الوقت لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء قد فات، لتجد نفسها أمام واقع متجذر يقتضي صياغة خيارات بديلة في مواجهته.
في هذه المرحلة، بدأ الحديث الإسرائيلي يكثر عن خطة مُجَدوَلة من خمس درجات تبدأ بإجراءات عسكرية ذات طابع وقائي على السياج الحدودي المحيط بالقطاع وتنتهي بشن عملية عسكرية برية واسعة تعيد الجيش إلى أزقته (سور واقي 2)، مروراً بتوغلات محدودة واغتيال القادة السياسيين للحركة وفرض حصار اقتصادي عليه.
وحين باشرت إسرائيل تنفيذ خطتها هذه، بدأت تكتشف أن القفز بين درجة وأخرى يحصل بوتيرة أسرع مما توقعت. فقد استطاعت المقاومة الفلسطينية، بصلابتها وإصرارها، أن تحرق أوراق الخيارات العسكرية سريعاً، بل أن تخرج في كل المواجهات التي خاضتها بإنجازات ميدانية، رغم الخسائر الفادحة، أتاحت مراكمتُها إنتاجَ توازن رعب حقيقي مع إسرائيل يذكر بذاك الذي كان قائماً على الحدود مع لبنان قبل عدوان تموز 2007.
انسداد الأفق الميداني ـــــ بخياراته المحدودة ـــــ أبقى إسرائيل أمام مفترق يقود إلى وجهتين لا ثالثة لهما: إما إعادة احتلال القطاع وإما الذهاب نحو الاتفاق على هدنة تعني، من دون مواربة، اعترافاً بـ«حماس» وحكمها، وإقراراً بنديتها السياسية وتكريساً لرادعيتها العسكرية. بعبارة أخرى: إعلان إسرائيل فشلها في كي الوعي الفلسطيني بعقم خيار المقاومة وظهورها بمظهر المستجيب تحت ضغط السلاح لتسويات من النوع الذي يتيح لعدوها ادعاء الانتصار من دون أن تكون قادرة على الطعن في هذا الادعاء.
يمكن تلخيص السياسة الإسرائيلية «الغزاوية» في الأشهر الأخيرة بأنها نوع من الصراع العنيف مع النفس في سبيل ترويضها لسلوك الوجهة الثانية مع محاولة الحد من خسائرها عن طريق التلويح دائماً بخيار الوجهة الأولى (الاجتياح البري) لتحسين شروط التفاوض. قرار المجلس الوزاري المصغر الأسبوع الماضي، بالاستمرار في مفاوضات التهدئة والاستعداد للحرب بالتوازي، ليس، في الواقع، إلا تجسيداً مراوغاً لهذه السياسة.
وراء التصريحات «الحربجية» التي أصبحت شبه لازمة في الخطاب الإسرائيلي الرسمي لما يحصل في غزة، يختبئ إدراك دفين، أن الحل العسكري تحول إلى «غير ذي صلة» في ضوء كلفته الباهظة وانعدام أية ضمانة للنتائج التي ستتمخض عنه.
في سياق المحاولات لإخفاء هذه الحقيقة، تتبدل الذرائع التي تُعلن للامتناع عن تفعيل الخيار العسكري الجذري. ذات مرة كانت تلك السخونة القائمة على الجبهة الشمالية والخشية من اشتعالها التي تحول دون إشعال جبهة أخرى، ثم ـــــ خلال الشتاء ـــــ حال الطقس التي لا تساعد على الإفادة الكاملة من القدرات الجوية الحاسمة، والآن الخوف على حياة الجندي الأسير جلعاد شاليط التي قد تتعرض للخطر إذا اجتاحت إسرائيل القطاع.
وبمناسبة الحديث عن شاليط، يبدو أنه تحول إلى ذريعة رائجة، بحيث استخدم مرتين، خلال أقل من أسبوعين، لتسويغ مواقف متناقضة. بداية، شددت الحكومة الإسرائيلية على أنه لن تكون هناك تهدئة من دون عودته، ثم قيل إنه يجب التوصل إلى تهدئة من أجل تحقيق الظروف التي تتيح إطلاق سراحه لاحقاً.
إن كان التصادم العسكري الشامل بين «حماس» وإسرائيل، حسبما تؤكد التقديرات الإسرائيلية، أمراً حتمياً في المستقبل البعيد، فإن «التهدئة»، في المدى المنظور، أمر لا يقل حتمية، في ظل عجز الخيارات البديلة عن تحقيق المطلوب. المفارقة أن إسرائيل ستكون، مع حصول ذلك، أولى الدول التي تعترف، فعلياً، بشرعية «حماس»، بعدما كانت أول من روج لمقاطعتها.