قد تكون فترة الانقسام قصيرة نسبة إلى الأحداث الكثيرة التي عصفت بالقضية الفلسطينية خلال الأشهر الأثني عشر الماضية، سواء على مستوى مفاوضات السلام أو على خط العمل الميداني العسكري، لكنها كلها لم تغيّر كثيراً في وضع الحوار الداخلي المفقود
حسام كنفاني

باتت القضية الفلسطينية ضحيّة تنازع خطين متناقضين، لم يثبت أي منهما صدقيّة خياراته. النهج السلمي، الذي اعتمدته السلطة الفلسطينية بزعامة الرئيس محمود عباس ورئيس حكومته سلام فياض، لم تظهر له أي نتائج إيجابية على أرض الواقع، ولم يفض حتى إلى وعد جدّي بإقامة الدولة الفلسطينية. على العكس تماماً، مع اقتراب الانتخابات الرئاسيّة الأميركية، بدأ وعد اتفاق نهاية العام، الذي أطلقه الرئيس الأميركي جورج بوش، يختفي شيئاً فشيئاً من الخطاب الأميركي. ومسار المفاوضات مع إسرائيل تعرقله آلاف الوحدات الاستيطانية التي ظهرت في الضفة الغربية بعد مؤتمر أنابوليس.
النهج المقاوم، الذي رسمته حركة «حماس» لنفسها وعلى أساس الدفاع عنه قامت بحسمها العسكري، أوصل إلى حصار خانق على قطاع غزة، الذي عاش ولا يزال كارثة إنسانية، اختفت خلالها الأطعمة والوقود وحتى حجارة المدافن للشهداء الذين باتوا يسقطون يومياً.
أمام الواقعين، يبدو الحوار الداخلي للوهلة الأولى هو مخرج الطرفين من الطريق المسدود الذي وصلا إليه. مخرج كان من الممكن أن تكون دعوة أبو مازن إلى الحوار فرصة كبيرة لتحويله إلى واقع والاكتفاء بعام واحد من الانقسام. غير أنه لا شيء يرجح حصول ذلك، على الأقل في الفترة القليلة المقبلة، لأكثر من اعتبار لدى طرفي النزاع، وهو ما يمكن ملاحظته من المواقف التي أعقبت دعوة عباس.
عباس والسلطة
بات من الواضح أن الحوار الفلسطيني لن يرى النور في القريب العاجل، ولا سيما أن أي خطوات جديّة لم تتبع دعوة عباس من جانب السلطة الفلسطينية وحركة «فتح». وحتى إعلان الرئيس الفلسطيني للجنة متابعة الحوار لا يوحي الكثير من الجدية، وخصوصاً بالنظر إلى تشكيلة اللجنة من ممثلين لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية. مثل هذه التشكيلة توحي أن المنظمة هي خصم حركة «حماس»، وهو ما ترفضه الحركة الإسلاميّة بشدّة، وحتى أنها ترفض الحوار إلا مع حركة «فتح».
الإيحاء ليس جديداً، وسعت إليه السلطة الفلسطينية في حوار صنعاء في آذار الماضي، حين أرسلت وفداً يمثّل المنظمة إلى العاصمة اليمنية بناءً على دعوة الرئيس علي عبد الله صالح، وهو ما أثار الكثير من السجال حينها، وأدى في النهاية، مع معطيات أخرى، إلى سقوط الحوار والإعلان الذي صدر عنه.
التشكيلة الحالية للجنة المتابعة يمكن إسقاطها على وفد صنعاء. فحتى وإن كان الرئيس الفلسطيني لم يعلن مجموعة الشروط التي اعتاد تردادها عند كل كلام عن الحوار، والتي كانت تعرقل أي مبادرة حوارية، إلا أن تشكيلته للجنة المتابعة كانت رسالة واضحة بأن الدعوة لن تذهب بعيداً وأن أهدافها تبدو مختلفة.
عباس، الذي من الممكن القول إنه يعيش رهاب نهاية العام، نظراً إلى غياب أفق الدولة واقتراب استحقاق الانتخابات الرئاسية، يسعى إلى تحقيق هدفين متوازيين: الأوّل توجيه رسالة إلى الأميركيين والإسرائيليين عن وجود خيارات بديلة للسلطة الفلسطينية في حال بقاء الجمود على مسار المفاوضات السلميّة.
الثاني داخلي. فهو يسعى إلى ما يشبه براءة ذمّة شعبية قبل إقدامه على انتخابات في الضفة الغربية فقط أو التمديد لنفسه على اعتبار أن حال الانقسام لا تسمح بإجراء الانتخابات الرئاسية المباشرة في موعدها. وقبل ذلك، لا بد من إظهار انفتاح على الحوار، على الأقل في العلن، ورمي كرة إفشاله في الملعب الآخر.
بين هذا وذاك، يسعى أبو مازن أيضاً إلى تكريس سيطرته على «فتح» وإقصاء خصومه داخلها خلال المؤتمر العام للحركة الذي يجري الإعداد له. ومن غير الممكن أن يتم ذلك قبل تحقيق التفاف عام من أنصار الحركة حول «نهج وحدوي» يواجه بتعنّت «انقلابي».
وفي السياق، فإن عباس يسعى إلى الإبقاء على الوضع في منظمة التحرير على ما هو عليه، عبر ملء الشواغر في اللجنة التنفيذية، وهي خطوات بدأ الإعداد لها فعلياً، إلا أنها بحاجة إلى إسكات بعض الأصوات التي تنادي بتطبيق اتفاق القاهرة عام 2005 وإشراك «حماس» و«الجهاد الإسلامي». إسكات، وسيلته المثلى إظهار رفض «حماس» للحوار ومنظمة التحرير.
برودة «حماس»
«حماس» لا تبدو اليوم مستعجلة للذهاب إلى طاولة الحوار. وتصريحات رئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنية عن الحوار يمكن اعتبارها سابقة في تعاطي الحركة مع المبادرات الحوارية، وخصوصاً أنها دأبت خلال الفترة السابقة على إعلان تجاوبها مع أي مبادرة تطلقها أي دولة عربية أو إسلامية لإنهاء حال الانقسام الداخلي.
كلام هنية جاء مختلفاً هذه المرّة. فـ«حماس» التي كانت تلح على «حوار غير مشروط» مع «فتح» باتت لها شروطها الخاصة: «أولاً، الاتفاق على مبادئ للحوار، ومن ثم على آليات للتنفيذ»، مطالباً باقتصار المرحلة الأولى على الأقل من الحوار على طرفي الأزمة، أي «حماس» و«فتح». حتى إن هنية رفض فكرة الوساطة العربية، مشدّداً على اقتصارها على «الرعاية».
شروط هنية لم تنته عند هذا الحد. فهو أرفقها بالتشديد على أن «الاتفاق لا بد أن يكون حزمة متكاملة»، وأن يتناول الحوار «كل القضايا والتفاصيل: الملف الأمني والشراكة ومنظمة التحرير الفلسطينية والمؤسسة القضائية».
حزمة لا يستهان بها من الشروط، تؤكّد الانطباع بأن «حماس» غير مستعجلة للحوار، وهي غير مستعدة للجلوس الآن إلى طاولة حوار قبل أن تتوضّح الصورة تماماً لما سيكون عليه شكل الحوار ونقاط المناقشة. ويبدو أن الحركة لا تريد تكرار تجربة صنعاء وإعلانها، الذي مات لحظة ولادته في ظل المعارضة «الفتحاوية» لنص الاتفاق.
هذا ظاهر الموقف «الحمساوي»، الذي بالتأكيد يخفي باطناً مرتبطاً بسلسلة من التطورات الداخلية والخارجية الخاصة بالقضيّة الفلسطينية. فأولاً الحركة ترى في دعوة عبّاس انتصاراً لنهجها، وإن كانت الدعوة غير جديّة. فمجرد لجوء الرئيس الفلسطيني إلى جبهته الداخلية لمواجهة التعنت الخارجي يعني أن الرئيس الفلسطيني بات بحاجة إلى السند «الحمساوي». سند لن تقدّمه الحركة الإسلاميّة مجاناً، فلا بد من مكاسب للحركة «المنتصرة».
مكسب آخر تترقبه الحركة من الخارج هذه المرّة، وعبر القاهرة تحديداً، التي تقود وساطة التهدئة مع إسرائيل. «حماس» قد تكون على يقين بأن التهدئة وفك الحصار وصفقة الأسرى في طريقها إلى التنفيذ. معطيات تعزّز موقفها داخليّاً في مواجهة سلطة أبو مازن، وتكسبها شرعيّة عربية ودوليّة، قبل الذهاب إلى الانتخابات المبكرة التي يريدها عباس، إذا قدّر للحوار أن يرى النور.
معطيات ترشح استمرارية وضعية الانقسام الفلسطيني إلى حين حدوث تبدّل جوهري في معطيات داخلية وخارجية تسمح بإعادة فتح ملفات الخلاف كاملة... على أمل عدم إحياء ذكرى الانقسام ثانية.