إيلي شلهوبتوجت سلسلة البوادر التهدوية في المنطقة بعرض حوافز مغرٍ حقاً، سُلم قبل أيام لإيران، يلبي حسبما يبدو معظم طموحاتها المعلنة، بينها «طاقة نووية سلمية» و«دور هام وبناء في الشؤون الدولية» و«ترتيبات أمنية» إقليمية، إضافة إلى المغريات الاقتصادية والتكنولوجية، وما إلى ذلك. عرضٌ يحمل توقيع الدول الست الكبرى المعنية بهذا الملف، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي يبدو، من خلال حركتها خلال الأسابيع الأخيرة في المنطقة، أنها باتت ترضى اليوم بما كانت تراها خطوطاً حمراء على مدى سنوات حكم إدارة جورج بوش.
ثنايا «الحوافز الشاملة» المعروضة على طهران تشير إلى أن واشنطن باتت مستعدة لتسوية تاريخية تضمن عدم امتلاك الجمهورية الإسلامية لسلاح نووي في مقابل اعتراف بموقعيتها الإقليمية والدولية. سلاح لا يزال صنّاع السياسة في الولايات المتحدة غير مقتنعين بإمكان احتوائه (رغم تأكيدات عدد كبير من الاستراتيجيين الأميركيين، الذين يؤكدون فشل سياسة «العصا والجزرة التي لا تصلح إلا للحمير»، بحسب تعبير زبغنيو بريجنسكي وويليام أودوم)، فضلاً عن رعب إسرائيل منه.
استعداد تدفع باتجاه التسليم به مجموعة من العوامل، بينها النكسات المتتالية التي أصابت المشروع الأميركي في المنطقة، وقرب انتهاء ولاية جورج بوش التي يسعى أقطابها إلى ترك إرث لهم، ومستوى الردع الذي بلغه أطراف «جبهة الممانعة» والذي أدخل المعسكر المقابل في حال من انعدام الخيارات.
بل أكثر من ذلك. تهدئة غزة التي دخلت حيز التنفيذ أول من أمس ومعها الحوار الفلسطيني الموعود، واتفاق الدوحة الذي أنهى الأزمة اللبنانية من دون أن يحلها، والغزل السوري الإسرائيلي المصحوب بتفاؤل دمشقي، واستفاقة واشنطن وباريس والقاهرة المفاجئة لإنهاء قضية مزارع شبعا، كلها إشارات تفيد بتغير في المقاربة الأميركية لأزمات المنطقة، يحق للبعض أن يرى عنوانها تهدوياً ـــــ تسووياً وخلفيتها إمرار الأشهر الأخيرة من ولاية بوش بالتي هي أحسن.
تفسير تقلل من شأنه طبيعة المعادلة الجيو ـــــ استرايتيجية المطلوبة (إسرائيل بلا منافس وخليج بلا تأثير فارسي ونفط آمن بلا شريك وهيمنة أميركية بلا منازع)، وعدم ترافق الإشارات المذكورة مع حركة موازية تبرر خلفيتها، على شاكلة انفتاح سعودي ـــــ مصري على سوريا يُترجم بانفراج كامل في لبنان.
لا شك في أن المقاربة تغيرت. لكنه تغير يطال الآليات، فرضه اقتناع بانعدام فرص نجاح المقاربة السابقة: عزل إيران دولياً وتطويقها إقليمياً وقص أظفارها العسكرية (حزب الله خاصة، ومعه «حماس») وإطاحة النظام السوري، تمهيداً لدفعها في نهاية المطاف إلى الإذعان أو مواجهة ضربة عسكرية. وجعله أمراً ملحاً اقتراب موعد رحيل جورج بوش والخشية من ضياع «إنجازاته» في حال وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، والرغبة في تسهيل عمل جون ماكاين في حال فوزه بالرئاسة الأميركية.
مقاربة «محدثنة» غايتها تبقى تحقيق هدف واحد أحد: «تغيير سلوك» إيران، بمعنى تدجينها، بعد الاقتناع بانعدام وجود فرصة لتغيير نظامها. تدجين يكون إما بالوسائل الدبلوماسية (الجزرة) أو بالوسائل العسكرية (العصا).
ما تغير حصراً هو الآليات التي توفر البيئة الملائمة لاستخدام هذه العصا بالطريقة التي تحقق الهدف المرجو منها: أن يدفع العمل العسكري النظام الإيراني إلى الاقتناع بعدم جدوى المضي قدماً ببرنامجه النووي، وبالتالي التخلي عنه.
بهذا المعنى، يبدو «عرض الحوافز» محاولة أخيرة لرأب الصدع الذي أصاب المعسكر الغربي في ما يتعلق بعزل إيران، وبالتالي الترويج لمقولة (في حال رفض طهران للعرض) إن الخيار العسكري بات «خيار الضرورة»، بما يضمن عدم معارضة «الحلفاء» لضربة عسكرية وتأمين دعمهم وتعاونهم في مرحلة ما بعدها لتأمين تحقيق الغاية المرجوة منها.
كذلك، تبدو الجهود الأميركية والفرنسية والمصرية لتسوية قضية مزارع شبعا (بغض النظر عن بعدها الداعم لحكومة فؤاد السنيورة)، ومعها صفقة التبادل المتوقعة وتحرير سمير القنطار، أداة لسحب أي ذريعة من أيدي حزب الله يمكن أن يتحجج بها لفتح جبهة في الجنوب (بالتزامن مع الضربة العسكرية لإيران)، ما يجعل عملاً كهذا، في نظر المجتمع الدولي، «عدواناً» على إسرائيل يبرر لمجلس الأمن ومعه حلف شمال الأطلسي التدخل تحت المظلة الدولية، وفي نظر المجتمع العربي عملاً «فارسياً» غير مبرر ومرفوض.
بدورها، تبدو غاية المفاوضات السورية ـــــ الإسرائيلية، والغزل الغربي لدمشق، في هذا السياق، إغراء النظام السوري بسلة من المغريات توفر له البقاء واستعادة الجولان والانفتاح على العالم مع تدفق مليارات الدولارات من الاستثمارات ودور ما في لبنان وغيره... في مقابل الوقوف على الحياد!
أما تهدئة غزة والحوار الفلسطيني ـــــ الفلسطيني، ومعها التسوية اللبنانية المنقوصة، فإضافة إلى العوامل الذاتية التي فرضتها، تبدو محاولة لتخفيف حدة التوترات في المنطقة بما يضمن ألا تمثّل عناوين لاستقطاب شعبي في الوطن العربي، أو إحراجاً لبعض الأنظمة.
بذلك، تكون الولايات المتحدة قد حصرت (أو هكذا تعتقد) إمكان الرد على الضربة العسكرية بإيران نفسها. وهي تراهن، على ما يبدو، على انخفاض وتيرتها، على قاعدة أن أي تأثير على الصادرات النفطية ستضر بطهران، التي تمثّل وارداتها النفطية نحو 80 في المئة من مواردها الخارجية. كما تسعى، في الوقت نفسه، إلى الحؤول دون تدحرج العملية العسكرية إلى حرب إقليمية، لا مصلحة لها فيها (من وجهة نظر عسكرية).
المطلوب، بحسب دراسة صدرت قبل أيام عن «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، ضربة مركزة، يرجح أن تكون متعددة المراحل، تستهدف بعض المنشآت النووية الإيرانية، وقد تمتد لتشمل بعض المنشآت الحيوية، النفطية خاصة، في ظل مناخ عربي ودولي ملائمين، يمنع تعاطف الرأي العام مع النظام الإسلامي، وبطريقة تحول دون التفاف الإيرانيين حول علمهم الوطني، بل تدفعهم إلى إلقاء اللوم على «السياسات الخاطئة» التي يمارسها قادتهم. لكن الأهم فيها هو أن تُستتبع بمجموعة من الإجراءات العقابية تُقنع قادة النظام بأن فوائد البرنامج النووي أقل بكثير من أثمانه، وأن التخلي عنه وعدم إعادة بنائه مصلحة إيرانية بامتياز.
ما سرب أمس عن مناورات إسرائيلية تستهدف إيران، يعزز هذه الفرضيات، علماً بأنه لا مصلحة في أن تحمل الضربة العسكرية توقيعاً عبرياً. ربما كانت مجرد ضغوط على الإدارة الأميركية والغرب للتسريع بمعالجة المعضلة الإيرانية، وقد تكون استعدادات جدية تنتظر الضوء الأخضر الأميركي.
المشكلة أن حسابات الحقل عادة ما تكون مختلفة عن حسابات البيدر. وتقديرات كهذه، إن صحت، تنبئ بصيف أكثر سخونة مما كان متوقعاً: صحيح أن الوضع الذي آلت إليه إدارة بوش قد يجعلها ترضى بإبرام تسويات، لطالما رفضتها. لكن حتى هذه اللحظة، ليس واضحاً أن النظام الإيراني وصل إلى اقتناع بأن الوقت قد حان لمصالحة من أي نوع كانت.