استفادوا من تولّيها حكم القطاع لممارسة دعوتهم بحريّة... في المنازلقيس صفديشادي، اسم مستعار، لشاب كان سجيناً لدى «حماس» بتهمة تفجير مؤسسة مسيحية في غزة قبل نحو شهرين، لكنه خرج بعد أيام قليلة ينبذ العنف والتطرف. سر التغير الذي طرأ على تفكير شادي بعد نحو أسبوع من السجن يرجع إلى «دروس» التوعية التي خضع لها على يد عدد من «منظّري» الحركة.
شادي كان عضواً في «حماس» قبل أن ينضم إلى تنظيم «جيش الإسلام»، الذي يتزعمه ممتاز دغمش ويعتنق السلفيّة الجهاديّة ويلتقي فكرياً مع تنظيم «القاعدة». سبب «انشقاقه» كان لاستيائه في حينه من عدم تطبيق حركة «حماس» أحكام الشريعة الإسلامية عقب سيطرتها على قطاع غزة في منتصف حزيران 2007.
وقال مصدر قريب من حركة «حماس» إن أمثال شادي يندفعون إلى الانضمام إلى تنظيمات مثل «جيش الإسلام» بدافع «الغيرة على الدين»، من دون تقدير أنه «لا الظرف ولا الوقت مهيآن لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية». ولا تشكك حركة «حماس» في «نوايا» التنظيمات الإسلامية التي تلتقي فكرياً مع تنظيم «القاعدة»، غير أنها تعتقد أن القائمين والمنتمين إليها «اختاروا وسائل خاطئة للوصول إلى هدف نبيل». ويرى المصدر أنه ليس من الصعب إعادة أمثال شادي إلى «جادة الطريق الصواب»، وتصحيح «المفاهيم الخاطئة» التي اختلطت بتفكيرهم العقائدي.
ودأبت حركة «حماس» وحكومتها المقالة برئاسة إسماعيل هنية على نفي وجود تنظيمات وخلايا مرتبطة بتنظيم «القاعدة» في غزة. وردت «حماس» مراراً على اتهامات الرئيس محمود عباس بأنها وفّرت مناخاً لتسلل عناصر وخلايا مرتبطة بتنظيم «القاعدة» إلى غزة، ورأت في هذه الاتهامات محاولة «لاستجلاب ردة فعل دولية ضد قطاع غزة».
ليس بالإمكان إثبات وجود خلايا لـ«القاعدة» أو مرتبطة بها في غزة، لكن واقع الحال يشير إلى وجود «مجموعات» لا ترقى لدرجة «التنظيمات» تتبنى نهجاً وفكراً متشددين دينياً. أغلب هذه المجموعات، وربما كلها، لا تلتقي فكرياً مع «حماس» المرتبطة بالفكر الوسطي للتنظيم الدولي لجماعة «الإخوان المسلمين»، ولا ترضى عن ممارسات «حماس» وأدائها في الحكم على مدار عام، لأنها «لا تحكم بما أنزل الله».
أبو حفص واحد من هؤلاء، فهو غير راض عن أداء «حماس» في الحكم. وقال إن «حماس لا تقيم شرع الله. لم نر سارقاً قطعت يده ولم نر زانياً رُجم». لكن بالرغم من خيبة أمل أبو حفص بسبب المنهج الذي تبنته «حماس»، يعتقد بعض المحللين أن الجماعات الأصغر حجماً والأكثر تشدداً مثل جماعة أبو حفص السرية التي يطلق عليها اسم «جيش الأمة» استفادت من تولي «حماس» السلطة في توسيع نطاق عضويتها.
ورغم أن السياسة الرسمية لـ«حماس» تنطوي على احترام حقوق الأقلية المسيحية في غزة (نحو 4 آلاف مسيحي)، فإن الهجمات على المسيحيين شهدت زيادة في العام الماضي من جانب الإسلاميين غير الراضين في ما يبدو عن مدى «الأسلمة» الذي تطبقه «حماس» في غزة.
ومن بين العلامات الظاهرة على هذا، انتشار الالتحاء بين الرجال والحجاب في أوساط واسعة من النساء، إلى جانب الاختفاء الفعلي للمشروبات الكحولية وحظر المواقع الإباحية على الإنترنت. لكن مسؤولي «حماس» يرفضون الاتهامات بأنهم يطبقون برنامجاً لفرض الشريعة الإسلامية على مظاهر الحياة اليومية. وتقول «حماس» إنه إذا كان سكان غزة ازدادوا تديناً ــــ ولا يوافق جميع سكان القطاع على أن هذا هو الأمر ــــ فإن هذا نتيجة اقتناع. وعلق المتحدث باسم «حماس»، سامي أبو زهري، قائلاً «هذا لا يحدث بالإكراه، بل لازدياد الوعي في المجتمع».
ومع ذلك، فإن هناك الكثير من الإشارات التي توحي برغبة غير معلنة لـ«حماس» بتحوّل غزة إلى «مجتمع ديني»، من ذلك المبادرة التي أطلقتها إدارة سجن غزة المركزي في الشهور الأولى من السيطرة على غزة، وتقوم على مبدأ «حفظ أجزاء من القرآن كوسيلة للسجناء من أجل تخفيف مدة الحبس».
وقال ناشطون في مؤسسات حقوق الإنسان في غزة إن سجاني «حماس» يمارسون دور «الوعاظ» مع السجناء لحثهم على الصلاة والاستقامة وحفظ القرآن وتلاوته، لكن من دون ضغط أو إكراه، بل بالترغيب وحسن المعاملة.
وشهد العام الماضي، الذي تلى «النصر» الذي حققته «حماس» على قوات «فتح» والأجهزة الموالية للرئيس محمود عباس، ولادة جماعات إسلامية متشددة متهمة بالوقوف وراء عمليات التفجير التي تعرضت لها مؤسسات مسيحية، ومقاهي إنترنت في غزة.
وقال أبو زهري «أي فرد يتسبب بالتعرض للمصالح العامة فبالتأكيد هو ملاحق بالقانون ويتعرض للمحاسبة»، إلا أنه أضاف أن «حماس» مستعدة لقبول مساعدة مثل هذه الجماعات في قتالها ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي.
وتسيطر حركتا «حماس» والجهاد الإسلامي على غالبية المساجد في غزة، وتقيّد الجماعتان نشاط الفصائل المتطرفة الأخرى التي تميل إلى الاجتماع في المساجد الأصغر أو في منازل أعضائها، حيث يلقون دروساً عن مفاهيمهم الأكثر تشدداً للإسلام.
وتشهد أكشاك في الأسواق نشاطاً كبيراً في بيع تسجيلات خطب زعماء تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو مصعب الزرقاوي، إضافة إلى تسجيلات مصورة تظهر مشاهد لقطع رقاب جنود وأشخاص أميركيين وأجانب في العراق.
وفي إطار مناخ زاد فيه الحصار الإسرائيلي المشدد ضد «حماس» من الصعوبات التي يواجهها الناس في القطاع، يبدو لبعض المحللين أن بعض أشكال الإسلام الأكثر تشدداً أصبح له تأثير متنام على بعض الفلسطينيين.
وقال محلل سياسي من غزة، طلب عدم نشر اسمه خوفاً من الانتقام، إن «تأثير حماس في تشجيع اتّباع سلوك اجتماعي أكثر ميلاً للإسلام في غزة متفاوت». وجادل بأن مسألة تولي «حماس» السيطرة ثم عدم تطبيقها نظاماً إسلامياً أكثر تشدداً ربما يكون عزز تلك الجماعات التي تحبذ هذا. وأوضح أن «حماس حريصة ألا تبدو كدولة إسلامية، ولذلك هم ابتعدوا عن إقرار قوانين وتشريعات إسلامية لإجبار الناس على تبني ما يعتقدون. لم يحاولوا اتخاذ خطوات لأسلمة المجتمع، ولكن السماح لمثل هذه الجماعات الشبيهة بالقاعدة بالوجود هو أمر خطر».
وقال أبو حفص ذو اللحية الكثة، الذي استجوبته أجهزة الأمن التابعة لـ«حماس» ثلاث مرات لكنها أطلقت سراحه في كل مرة بعد وقت قصير، إن جماعته تجد مجنّدين بين أعضاء «حماس» والفصائل الأخرى الذين تحرروا من الوهم.
ويرى مراقبون أنه على خلاف قادة «حماس»، فإن كثيراً من عناصرها يتبّنون نهجاً متشدداً، ولا يخفون إعجابهم بتنظيم «القاعدة»، وكثيرون منهم يحتفظون بصور كبيرة لبن لادن في منازلهم، ويتابعون تسجيلاته، ويقبلون على شراء تسجيلات خطب دينية لسلفيين متشددين.
ولجماعة «جيش الأمة»، التي يُعدّ أبو حفص أحد أبرز وجوهها في غزة، طموحات أوسع نطاقاً من هدف «حماس» المعلن بإقامة دولة موحدة في فلسطين التاريخية. ومضى أبو حفص يقول «حتى لو انتهى حكم اليهود في فلسطين، فنحن أصحاب دعوة ولا بد أن ننطلق بالدعوة»، مضيفاً أن «على الدول الأخرى القبول بالحكم المطلق للإسلام». وتابع «إما أن يدخلوا الإسلام أو يدفعوا الجزية وإلا فالسيف».
ويقرّ أبو حفص بولاء جماعته لتنظيم «القاعدة» بالرغم من افتقارها لصلة رسمية تنظيمية مع بن لادن، مضيفاً «بالنسبة للقاعدة فلا حاجة لأن تكون في غزة. القاعدة كفكر ونهج موجودة على الأرض». وتابع «ليس لنا أي علاقات تنظيمية مع القاعدة ولكنهم إخواننا. هم إخواننا في العقيدة وليس لدينا اختلافات في الفهم».
ولا يزال من الصعوبة بمكان قياس تأثير هذه الأفكار المتشددة بين أفراد الشعب الفلسطيني في غزة، الذين طالما اتسم منهجهم في الإسلام بتنوع أكثر سماحة من المنهج الموجود في أقصى الشرق في العالم العربي.
وبالرغم من فوز «حماس» بأغلبية المقاعد في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في غزة عام 2006، فإنه لا يبدو واضحاً أن جميع أنصارها يحبّذون إقامة دولة إسلامية رسمية. ويقول كثير من سكان غزة إنهم يشعرون بالضغط بسبب الوجود الواسع الانتشار لمقاتلي «حماس» ونشطائها الذين يحثونهم على الالتزام بالإسلام بدرجة أكبر.
وقال أبو عماد، الذي يعمل مدرّساً، «أنا أعرف أشخاصاً غيّروا نغمات رنات جوالهم (هاتفهم النقال) إلى أناشيد إسلامية. بعض النساء بدأن يرتدين غطاء رأس، خاصة عند خروجهن من البيت».
غير أن بعض النساء ذكرن أنهن شعرن بحرية اختيار ألا يرتدين الحجاب بسبب الشعور بمزيد من الأمن في الشوارع بعد توقف القتال بين حركتي «فتح» و«حماس» في حزيران الماضي. وقالت أحلام، التي تعمل سكرتيرة، «أنا لا أحب حماس ولكنني أشعر أكثر أمناً وحرية في ألا أرتدي غطاء رأس، لأن رجال شرطة حماس لا يضايقونني».
أبو عماد، الذي طلب عدم نشر اسمه بالكامل خوفاً من مواجهة مشكلات مع السلطات، قال إنه يعتقد أن الناس حذرون بشأن حكامهم الإسلاميين الجدد. وأضاف «يبقى أن حماس ليست طالبان وحكمهم ليس إسلامياً متشدداً».