strong>ضرب الرئيس حسني مبارك الأرقام القياسية في الحكم وطول العمر والقدرة على عبور الأزمات. الرجل الآتي من صفوف بيروقراطية عسكرية لم تكن تحلم بمقعد الرئاسة، هو حاكم مصر منذ ٢٧ سنة. رتّب النظام السياسي على مقاسه. لم يعد عسكرياً، ولم يصبح مدنياً. مبارك هو معجزة الأنظمة السياسية. خرج وهو على أعتاب عقده التاسع ليواجه إضراباً في يوم ميلاده. من سينتصر؟ الرئيس العجوز أم المعارضة الشابة؟
وائل عبد الفتاح

المعارضة البيولوجية
الإضراب المقبل يوم عيد الميلاد الثمانين لحسني مبارك. الرسالة ساخرة. لكنها أيضاً موحية. فهذا هو سن التقاعد والحكمة المؤجّلة. ولم يصل حاكم مصري (ملك أو رئيس) إلى هذا العمر وهو في السلطة. المصريون يتابعون عمر رئيسهم بإثارة عالية، ويتناقلون تفاصيل طريقة مبارك في إخفاء العمر. ويرون أنه تعلم كيف لا تكون نهايته درامية كما كانت مع سابقيه. عبد الناصر الذي مات إثر أزمة قلبية من هموم الحكم. والسادات الذي قتل وسط جيشه. لم يترك مبارك لهموم الحكم أن تصل به إلى درجة الموت. صنع فاصلاً بينه وبينها. ساعدته طبيعته الشخصية كبيروقراطي عسكري يستقبل الأزمات بمرونة، ولا يحب الصدام.
كان مشهد بداية حكمه وسط دماء الرئيس الذي اختاره، هو المحرك النفسي لكي يحمي نفسه من المصير نفسه، عبر إقامة حواجز أمنية تجعل الوصول إليه مستحيلاً. هذه الحواجز الأمنية سيطرت على سنوات حكم مبارك ودفعت بالأمن إلى صدارة المشهد الذي يمكن تلخيصه في أنه استمد شرعيته من جبهة الحرب مع إسرائيل. وبعد موت السادات في منصة الاحتفال بالنصر، قرّر مبارك أن يدير ظهره للجبهة وأن تكون السيطرة على المصريين هي جبهته، وهذا ما جعله لا يرتدي البزة العسكرية طوال سنوات حكمه، ويحوّل قوات الأمن إلى جيش قوي لحمايته شخصياً.
متابعة عمر الرئيس دخلت مجال الصراع السياسي، وأصبحت اللعبة السياسية المفضلة للمعارضة. والسر الذي يثير الخيال الرافض لاستمرار النظام. معارضة بيولوجية تتابع حالة جسد الرئيس، وحدود قدرته على الحكم.
فقدان الأمل في النهاية السياسية جعل من فكرة انتظار النهاية البيولوجية أقصى مقاومة متاحة. مقاومة سلبية وعلامة عجز، لكنها صنعت حيوية سياسية للغضب من استمرار أوضاع تبدو بلا نهاية. الغضب على نظام مبارك قديم وعميق، وربما محبط، لأنه غضب في مواجهة نظام فاتر. يمتص معارضته، ويغرقها في بحر رمال كبير، ويصنع ما يمكن تسميته الاستبداد المصري، شراسته ناعمة أحياناً. تفك الخصوم قبل أن يصلوا إلى مرحلة الصدام، تعتمد على الأمن في إلغاء المواجهة. وهكذا، تحوّلت الأحزاب إلى دكاكين باسم أصحابها، وحلّت سياسة الصفقات السرية محل الصراع السياسي الحقيقي، واحتكر العواجيز دكاكين المعارضة وحاصروا الشباب. رؤساء الأحزاب أصبحوا مندوبين للنظام يحافظون على درجة حرارة لا تزعجه وأصبح شعار «لا صوت يعلو فوق الحفاظ على الحزب»، الذي يعني عدم الخروج على التعليمات والرضى بمجرد الوجود.
هنا كانت مرحلة العزلة الإجبارية أو الاختيارية ومحاولة التمرد على الوضع الجامد المستقر، مثل أجواء دور المسنين. ومع تجميد المجتمع عند الدرجة المناسبة للسلطة، أصبحت المعارضة بيت ديناصورات قديمة تلهو مع وحوش الحكومة في استعراض سياسي ممل وخائب. لكن الأمور تغيرت بعد ١١ أيلول 2001. أميركا اكتشفت أن الأنظمة التابعة لها تحوّلت إلى مصانع للإرهابيين، وطلبت أن يفلت مبارك قبضته قليلاً. تردد النظام، لكنه استجاب للضغوط بعدما اقتنع بأن الأمر في النهاية بيده، وأن الطريق مسدود ما دام يسيطر على كل شيء. هذه كانت رغبة النظام: حرية تحت السيطرة، ومعارضة مصنوعة بإرادة النظام وتحت إدارته المباشرة. القبضة كانت قوية.
لكن الصحافة بطبيعتها الخاصة خرجت من السرب أكثر قليلاً ممّا ما هو مسموح. باختصار: خرجت الصحافة عن النص، لم تعد صحافة سمع وطاعة. وبالمعنى الأوسع: لم تعد الصحافة تنتظر هاتفاً من الرئاسة لتكتب. لم تعد هي المنصة التي يطل منها الرئيس المقدس على شعبه. تحرّكت الصحافة خطوات خارج الخطوط الحمراء، وبحثت عن وظيفتها القديمة: صوت المجتمع وكشافات الإضاءة التي تساعده على اقتحام المناطق المعتمة. البحث لا يزال مرتبكاً وفي حدود المشاغبات المثيرة، التي لم تجد، وهي تريد كسر قداسة النظام، إلا الرئيس باعتبار أنه النظام.
وبعدما كان النقد لا يقترب سوى من حاشية الرئيس، كسرت الصحافة الحاجز، واقتربت بالتدريج حتى أصبح مبارك هدفها كرأس لنظام بعيد عن اللمس. لكن كسر قداسة الرئيس لم يكن خطوة صغيرة، بل فتح الطريق إلى صحافة مختلفة بمذاق مختلف، ومزاج أكثر تمرداً عن حالة الوفاق التام تحت مظلة الرئيس الفرعون.
وبعدما كانت مجلة «روز اليوسف»، في عهدها المشاغب منتصف التسعينيات تخسر 10 آلاف نسخة إذا نشرت صورة الرئيس مبارك، أصبح ظهور الصورة نفسها على غلاف صحيفة مستقلة يضمن نسخاً زائدة، لأن الجمهور الواسع يعرف أن الصورة تشير تلقائياً إلى موقف معارض من الرئيس ونظامه.
هذه الخطوة خلقت مزاج معارضة اكتفى بالمناوشات مع السلطة، بالانجذاب إلى معركة صغيرة بلا أفق ولا خيال سياسي مع نظام طويل العمر. ثلاثة أرباع المعارضة ستختفي مع اختفاء مبارك، سيصبحون أيتام مبارك، لأن مشروعهم الحقيقي استنفد تماماً في شتيمة الرئيس وعائلته. متعة الشتيمة كانت المقابل الموضوعي لمتعة السلطة. ولم يهتم أحد ببناء معارضة حقيقية وجذرية، معارضة يكون هدفها تقوية المجتمع ووسائله. المجتمع الذي أبعد عن الحياة السياسية طيلة 50 عاماً لا بد أن يعود إلى الحياة. قوة المجتمع في مواجهة نظام يبتلع الدولة هو الحل لإعادة التوزان لحياة سياسية تحوّلت إلى فيلم رعب.
وهذا ما يتم الآن بفوران عاطفي سريع سرعة البرق، ويسير على وعي يتحرك بخطوات سلحفاة. المعارضة الآن جسم فاتر ورأس خامل ينام في كهوف الندب السياسي. صراع بيولوجي، لكن على مستوى آخر.

«البطل الهولندي»

حسني مبارك «بطل العدالة الاجتماعية». هذا واحد من العناوين العريضة لصحف النظام بعد قرار الرئيس تقديم علاوة الـ٣٠ في المئة على الرواتب. الصحف قالت إنها أكبر زيادة في التاريخ. هذه الصحف تسمى رسميّاً «قومية»، لكنها صحافة الرئيس. تتحدث باسمه وتكون شاشة عرض دائمة له ولسياساته.صحافة «بروباغندا» موروثة من نظام شمولي

صحافة مبارك أقامت حفلات دعاية لعلاوة الرئيس، وذكرت أنها تكلف الدولة ١٢ مليار جنيه، ووصفتها بأنها «هدية مبارك إلى الشعب». وركزت على أن مبارك «الملاذ الآمن لمحدودي الدخل»، وهو وصف من اختراع مبارك نفسه، الذي أعاد تصنيف المصريين بحسب قيمة الدخل. وبدلاً من النظر إليهم كقطاعات منتجة، تحوّلت صورة الموظفين والعمال في الدولة إلى «شبه عاطلين» في انتظار إعانات أو سند من رئيس النظام مباشرة. لكنهم في الوقت نفسه جماهير النظام وجيشه الاجتماعي. يمكن إهمالهم أو التعالي عليهم من دون أن يفلتوا تماماً من السيطرة. هذه المهارة الرئيسية لمبارك، ومحور العابه للحفاظ على الاستمرار.
«العلاوة» هي أخطر هذه الألعاب. جاءت في وقت قاتل. مبارك يعيش كهولته السياسية. يسعى فقط إلى نهاية هادئة، لكنه فوجئ بثورات تتحرك من منطقة لا يعرفها (الفيس بوك) وغير مدرب على التعامل معها. منطقة خارج السيطرة تماماً حولت الغضب المتناثر إلى حركة، قد تكون، رغم مظهرها الفوضوي، الأقوى تأثيراً منذ وصول مبارك إلى الحكم عام ١٩٨١.
أجبرت حركة الأسلاك العارية مبارك على العودة إلى الخطاب الدافئ والحميم مع جمهور «محدودي الدخل». مبارك بغريزة الحاكم المستمر ٢٧ سنة أدرك أن الجمهور يفلت من قبضته وأن تحالفاته الجديدة مع الأغنياء ورجال الأعمال لن تسند نظامه الذي يشبهه في الكهولة. وسريعاً، استعاد حيويته وقدّم واحداً من أقوى عروضه السياسية. وقف منفرداً بعيداً عن كل أركان نظامه وأعلن أنه وحده سيخفف من عذاب جيش المعذبين من ارتفاع الأسعار ويأخذ من الأغنياء ليمنحهم.
صحافته ركزت على الصورة. وهو استخدم تقنيات إعلامية لكشف رغبة الحكومة في أن تكون العلاوة ١٥ في المئة فقط وأنه طالبها بالزيادة فرفعتها إلى ٢٥ في المئة، لكنه على الهواء مباشرة استدعى وزير المال وهمس في أذن رئيس الحكومة قبل أن يعلن أن العلاوة لن تقل عن ٣٠ في المئة.
وأكملت الصحافة بقية العرض السياسي بصور كبيرة للرئيس وحديث عن ضرائب جديدة على أصحاب السيارات الفارهة، وأنه سيعيد ترتيب الدعم ويسحبه من الأغنياء إلى جيوب الفقراء.
صورة مستدعاة من تراث العهد الاشتراكي لتثبيت أركان حكم رئيس اعتمد في حكمه على شرائح من رجال أعمال تربوا في مزارع النظام، وكوّن منهم رأسمالية تابعة للنظام ومراكز القوى المتحكّمة فيه وليست تابعة للدولة. رأسمالية «الحبايب والمحاسيب»، كما وصفتها بعض الأدبيات الاقتصادية. وهي لم تنقل النظام في مصر من الاشتراكية إلى الرأسمالية، بل من دولة المستبد العادل إلى دولة مماليك الثروات السريعة. وهذا سر اعتماد التحول الاقتصادي على الاحتكار لا على برنامج إصلاح اقتصادي.
ولم يكن غريباً أن يبدو مبارك متراجعاً في خطاب العلاوة. لأنه يعتمد على العطايا. يحتوي جمهوره المختار من جيش الموظفين. وكلما لمح النظام في الأفق بشائر غضب، ضخ أموالاً في بنود الإنفاق، معتمداً على الإيرادات من السياحة أو المعونة الأميركية أو حصيلة بيع أصول القطاع العام، وإن لم تكف الإيرادات، يطبع أوراق مال ثم يفرض ضرائب جديدة.
إنها لعبة الجزرة (رواتب ودعم وميزانيات للتعليم) والعصا (إصدار قوانين مقيدة للحريات ومطاردة المعارضة وإظهار أنياب الديموقراطية). ساعد مبارك في اللعبة أن نظامه أتى في ظل فورة إيرادات. وكما يقول كتاب سامر سليمان «النظام القوي والدولة الضعيفة: إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك»، فإن هذه الفورة أصابته بما يسمى «المرض الهولندي»، وهو مصطلح مأخوذ من ملاحظات بعض علماء الاقتصاد رأوا فيها أن «تدفق الموارد على الاقتصاد الهولندي من اكتشافات الغاز الطبيعي خلال الستينيات قد أضر كثيراً بالصناعة هناك».
الإصلاح الاقتصادي لم يحول مصر إلى نمر أفريقي كما روجت صحافة مبارك، لكنه أدّى إلى مزيد من الاحتقان والأزمات وصلت ذروتها في الأشهر الأخيرة قبل أن يُخرج مبارك أدواته: العلاوة وقبلها وبعدها طبعاً الأمن الذي يرصد كتاب سامر سليمان مؤشراً هاماً إلى ارتفاع دوره وهو: «ارتفاع مصاريف وزارة الداخلية في التسعينيات إلى حد غير مسبوق.
ولم يقتصر نمو وزارة الداخلية على نصيب متزايد من الإنفاق العام ولكنه تضمن أيضاً زيادة عدد أفراد الشرطة من 150 ألف في 1974 إلى أكثر من مليون في 2002 ومن 9 في المئة من العاملين بالدولة إلى 21 في المئة في الفترة نفسها».
وهكذا، زادت قوة وهيمنة البوليس، خصوصاً بعد الانتصار في المعركة ضد جماعات العنف الإسلامي في الصعيد. عبّر عن هذا تغيير الشعار من «الشرطة في خدمة الشعب» إلى «الشرطة والشعب في خدمة الوطن». أصبحت الشرطة في وضع التساوي مع الشعب، ليقترب وضعها من وضع «الجيش في العهد الناصري».

قوّة العائلة كان هذا الشخص هو: عصمت السادات. البطل الأسطوري لحكايات عن فساد خرافي. أما الأنوف التي زكمت فقد كانت جهات التحقيق، التي طلبت فتح ملفات عصمت السادات وأحيل الأمر إلى الرئيس الذي طلب التأجيل إلى ما بعد طقوس الاحتفال بذكرى الرئيس الراحل. حدث هذا يوم 6 تشرين الأول 1982. في الذكرى الأولى لاغتيال السادات. في اليوم التالي: بدأت التحقيقات في مكتب المدعي الاشتراكي، وظهرت إلى العلن أول قضية فساد تتكلم عن عائلة رئيس الجمهورية، وبطلها هو: عصمت السادات، الشقيق الأصغر للرئيس أنور السادات، وأولاده، أشهرهم الآن طلعت السادات، النائب المشاغب الذي طالب أخيراً بفتح ملفات الذمة المالية لكبار رجال الدولة أو ما أصبح يعرف بحاشية الرئيس.
وهي مفارقة تستحق أن تسجل في سجل عجائب مصر، فالرجل الذي كان متهماً مع عائلته كلها في أكبر قضية فساد افتتح بها مبارك سنوات حكمه، يوجه الآن إلى المجموعة المقربة من الرئيس اتهامات قريبة من التي ظلت تحوم حول والده.
هذا أول إعلان لقوة عائلات السلطة بعد سقوط العائلة الملكية. العائلة الجمهورية صاعدة من أسفل. بجبروت سلطة حاكم يقترب من أن يكون إلهاً. يبدأ الحاكم متواضعاً، يسعى إلى محبة الناس ومحاربة الطواغيت ومطاردة الفساد. وبالتدريج يعزل في حاشية من الموهوبين في التبرير والتوريط والخبراء في طقوس التقديس. الخطوة التالية هي تقوية شبكة فساد محمية بقصور الحكم، وهذا ما يجعل الشبكة أقوى من إرادة الحاكم إذا أراد التغيير. عائلة مبارك تجاوزت هذه المرحلة. ورغم أنه في الأيام الأولى كانت صورتها أقرب إلى العائلات الريفية الحديثة، لكنها بعد ٢٧ سنة في الحكم بدت العائلة كأنها مشروع عائلة ملكية. زوجة الرئيس وابنه الأصغر يشغلان تقريباً نصف مساحة السجال السياسي. حتى إن سياسياً مخضرماً اقترح تحويل مصر من جمهورية إلى ملكية دستورية يصبح فيها حسني مبارك ملكاً رمزياً يملك ولا يحكم.
اقتراح وليد اليأس الذي يبدو أنه أصبح عقيدة سياسية. تدفع إلى الاعتراف بالأمر الواقع: لا تغيير ولا تنازل عن الحكم. كل رئيس منذ ولادة الجمهورية بعد الثورة يورث سلطته إلى خليفة من اختياره. فكرة التوريث ظهرت مع مبارك لأنه لم يختر خليفته. وخرجت سيناريوهات على أن الخليفة وولي العهد سيخرج من عائلته. أصبحت فكرة الخلافة والتوريث أزمة مصر المزمنة.
الحل يأتي من اليأس. حل يرضي كل الأطراف: اعتراف بالتوريث، ومحاولة تقنينه بملكية دستورية، لتكون مصر رائدة في تجربة العودة إلى الخلف، إلى نظم مستهلكة، متخلفة. لكن على الأقل سيحقق مطلباً غالياً وهو التخلي عن السلطة في مقابل ضمان الملكية.
اقتراح لا يرى التفاصيل ولا يدقق في ملامح الصورة. لا يرى الجوع والتشرد، ومجتمع النصف في المئة. حنين لا يهتم بالتفاصيل، لكنه ينجذب إلى زمن بعيد عن كوارث واقع ومآسيه، صنعه ملوك مصر الجمهورية.