إيلي شلهوبباتت لغة الحرب، وشبحها الذي يخيم على المنطقة، أشبه بنحيب يعكّر صفو عرس الانفراجات المتنقلة بين بؤر التوتر، وآخرها لبنان.
لغة هيمنت على التسريبات والتحليلات السياسية على مدى الأشهر الماضية، وانفراجات طفت فجأة على سطح الأحداث، من طهران إلى تل أبيب، مروراً ببغداد ودمشق وبيروت وغزة.
كانت التقديرات تُجمع تقريباً على تطور دراماتيكي متوقع خلال الصيف أو بداية الخريف. مرحلة كان متوقعاً أن تبدأ مع انتهاء الأعياد الإسرائيلية والاحتفالات الستينية ومغادرة الرئيس الأميركي جورج بوش للمنطقة.
تطور حصل، ولكن بعكس ما تنبأ به المتشائمون. سمته الرئيسة بدت إيجابية: تسويات مرحلية (أو جزئية)، لكل منها حساباتها الخاصة، ومعادلاتها وخياراتها. نطاقه بدا شاملاً: طال بؤر التوتر جميعها. إطاره الناظم يتحكم به مبدأ واحد: تجنب الاصطدام المباشر، أو إرجاؤه. خلفيته: لا جاهزية للحسم، أو على الأقل لا رغبة به في الوقت الراهن (من وجهة نظر معسكر الهيمنة)، ومحاولة إمرار الأشهر المتبقية من ولاية بوش بالتي هي أحسن، بانتظار ما ستسفر عنه انتخابات الرئاسة الأميركية (من وجهة نظر جبهة الممانعة).
معادلات فرضتها أزمات داخلية تعصف باللاعبين الرئيسيين في المنطقة، وإن بنسب مختلفة: تزايد الانتقادات الداخلية للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (وخاصة في الملف الاقتصادي)، وبلوغ مستوى الانفضاض عن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي حداً غير مسبوق، وعجز الأكثرية الحاكمة في لبنان عن الحكم وعن الاستمرار في وضعها هذا، وانهيار الأوضاع المعيشية في غزة إلى حدّ الكارثة، وتتالي الفضائح التي تطال رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، وانشغال الرئيس الأميركي جورج بوش باقتصاد بلاده المتهاوي وبالسباق إلى البيت الأبيض الذي تزداد حماوته.
خيارات ضبطت إيقاعها موازين قوى عسكرية تجعل من المواجهة المقبلة غير محسومة النتائج، ومكلفة إلى حد التهديد بسقوط أنظمة وفناء دول: تعاظم غير مسبوق في قوة إيران وحزب الله و«حماس»، في مقابل استعداد إسرائيلي ثغرته انكشاف الجبهة الداخلية، وجيش أميركي متعب، ويحتاج إلى إعادة تأهيل. (حتى العمليات العسكرية المحدودة، على شاكلة اجتياح غزة، تبدو كلفتها البشرية أكبر من النتائج المتوقعة منها في ظل انعدام الرؤية الناظمة لليوم التالي من اجتياح القطاع، إضافة إلى أن تمددها خارجه أمر غير مضمون).
بوادر حفز الذهاب باتجاهها سقوط مجموعة من الرهانات: تغيير داخلي في سوريا، وسقوط حكم «حماس» بفعل الحصار والمجازر،... وأخيراً قدرة الأكثرية اللبنانية على الصمود في الميدان، على غرار ما نجحت به في السياسة.
النتيجة جاءت، كما بات واضحاً، تهدئة طالت الملفات ـــ الأزمات بالجملة: حوافز غربية لإيران قابلتها باقتراح «حل شامل»، وتوافق أميركي ـــ إيراني على فكفكة عقدة التيار الصدري ترافقت مع عودة غالبية المنسحبين إلى حكومة المالكي، وتهدئة على نار التفاوض في غزة (رغم الأنباء الأخيرة عن فشل أصابه)، وتسوية لبنانية في الدوحة تزامنت مع الإعلانات الإسرائيلية ـــ السورية ـــ التركية عن محادثات غير مباشرة بين دمشق وتل أبيب تُعقد في اسطنبول برعاية أنقرة، وعبرها.
تسويات مؤقتة عكست تراجعاً أميركياً، وتقلصاً في نفوذ حليفي واشنطن العربيين الرئيسيين في المنطقة: السعودية ومصر. تبدو كأنها لعب في الوقت الضائع، آفاقه مرتبطة بصناديق الاقتراع الأميركية، وهي مفتوحة على خيارين، ليس بينهما التسوية التاريخية المأمولة للمنطقة: لا بين إسرائيل ومن تبقى من دول الطوق، ولا بين إيران والولايات المتحدة.
فالدولة العبرية لا تبدو مستعدة للتخلي عن صهيونتها وإعادة الحقوق، ولا القبول بدور الدولة الصغيرة الحجم والقليلة الحيلة، على الأقل في المدى المنظور.
وحزب الله، بعدما تحوّل إلى قوة عسكرية إقليمية، لن يقبل بدور أقل من هذا، حتى لو رضيت طهران!
كذلك، يبدو مؤكداً أن إيران لن ترضى بأقل من دور دولة عظمى إقليمية يعترف الجميع لها بمناطق نفوذ تمتد من بحر قزوين وأفغانستان إلى الخليج ولبنان.
ولا يبدو أن سوريا قادرة، من وجهة نظر مصلحية بحتة، على فك ارتباطها لا بإيران ولا بحزب الله.
بدورها، لا تبدو الولايات المتحدة جاهزة لعقد هذه التسوية مع الجمهورية الإسلامية والقبول بالأوضاع المستجدة في المنطقة، حتى لو رغبت، أخذاً بالاعتبار العامل الإسرائيلي.
وهكذا، يبدو الخياران محصورين بحال المراوحة والانفجار. القرار في شأنهما لا يزال، كما هو الحال دوماً، بيد سيد البيت الأبيض (الحالي والمقبل)... بانتظار عملية الثأر لاغتيال عماد مغنية.