قلّما يهمّ اكتشاف هويّة من أشعل شرارة الحرب الكلاميّة بين الحكومة التركيّة والجهاز القضائي المسيَّس حتّى النخاع بفعل الدستور والتاريخ والصلاحيّات. أكثر ما يثير المتابع، هو استشراف مستقبل العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائيّة عشيّة صدور قرار قد يحظر وجود «حزب العدالة والتنمية»
أرنست خوري

لا تكاد تنطفئ معركة سياسيّة في تركيا إلّا وتندلع أخرى. فالبلاد تعيش منذ تأسيسها كباشاً سياسيّاً بين الحكومات غير المتطابقة كلياً مع مزاجات العسكر، كان ينتهي عادةً بانقلاب يطيح السلطة التنفيذية ويحظر أحزابها. لعبة كان آخر فصولها في عام 1997، حيث بدا كأنّ العسكر جيّر السلطة الانقلابيّة إلى الجهاز القضائي المتمثّل بالمحكمة الدستوريّة ومحكمة الاستئناف العليا.
الأسبوع الماضي في تركيا، كان «حربيّاً» بامتياز، حيث شهدت البلاد حفلة بيانات وبيانات مضادّة غير مسبوقة في حدّتها بين حكومة رجب طيّب أردوغان ورئاسة محكمة الاستئناف العليا ومجلس شورى الدولة، على خلفيّة ما يصفه الجهاز القضائي ــ الحامي المدني للقيم العلمانية للجمهوريّة ــ بأنه رغبة الحكومة الإسلاميّة المحافظة في السيطرة على الجهاز القضائي.
ردود وزارة العدل ورئاسة الحكومة لم تقلّ قساوة، إذ «جَرُؤت» للمرّة الأولى منذ تسلّمها السلطة التنفيذية في عام 2002، على اتّهام القضاء بأنه بات يشغل نفسه بالعمل السياسي أكثر من تخصيصه الوقت لممارسة دوره كقضاء منزَّه عن الانقسامات السياسيّة.
توقيت اندلاع حرب البيانات التي شغلت الصفحات الأولى من معظم الصحف التركيّة، ليس بريئاً. فالبداية كانت قبل أسبوعين، حين اتّهم نائب رئيس المحكمة الدستوريّة عثمان باكسوت الشرطة ومن خلفها حكومة أردوغان بالتجسّس عليه، ووضع السلوك هذا في خانة الضغط على محكمته في قضيّتي النظر بدعوى المدّعي العام عبد الرحمن يالتشينكايا لحظر حزب «العدالة والتنمية» وقرب إصدار محكمته قرارها في شأن التعديل الدستوري الذي خفّف الشروط عن ارتداء الطالبات التركيّات للحجاب الإسلامي في الجامعات.
لم تمرّ بضعة أيّام على تفجير باكسوت المسألة في الإعلام، إلّا وانتقل السجال إلى محكمة الاستئناف عبر رئيسها حسن غرشكر. ففي 21 من الشهر الجاري، أصدرت المحكمة بياناً وصفه الصحافيّون بأنه الأقسى الذي يصدر من جهاز قضائي بحقّ حكومة تركيّة، اتّهمها فيه بـ«ممارسة الضغط المنظَّم لتمنع القضاء من إصدار أحكام في قضايا مفصليّة». إلا أنّ القضاة أرادوا توضيح الصورة، فحصروا هدف الحكومة من «تدخّلها السافر» في عملها بموضوع دعوى حلّ الحزب الحاكم ومنع قياديّيه من مزاولة العمل السياسي. كما اتّهم البيان نفسه السلطة التنفيذية بالعمل على خلق جهاز قضائي موازٍ داخل المحكمة بما يتناقض مع قيم الجمهوريّة.
والبيان المضادّ صدر عن نائب رئيس الوزراء، كميل جيجيك، الذي رفع سقف التحدّي عندما وصف بيان المحكمة بأنّه «غير شرعيّ ولا قانونيّ وغير مقبول تحت أيّ شكل لأنه بيان سياسي بحت». ويوم الخميس الماضي، انضمّ مجلس شورى الدولة إلى محكمة الاستئناف لإصدار بيان مماثل ضدّ «تدخّل الحكومة للهيمنة على الجهاز القضائي».
أمّا أكثر العناصر الغريبة في المشكلة بين الطرفين، فهو وَضْع الرئيس عبد الله غول نفسه حكماً بين الطرفين، وهو القيادي في الحزب الحاكم. موقع المحايد هذا ليس الأوّل الذي يجهد غول في تأديته منذ فترة. وهذه المرّة جاء موقف غول «المعتدل» بعدما طلب رئيس حزب الحركة القوميّة دولة بهشلي منه أن يتوسّط بين الفريقين، وهو ما وافق عليه الرئيس الذي يُتوَقَّع أن يرعى حواراً مباشراً بين الطرفين وعلى طاولة واحدة، في مكتبه الرئاسي مباشرة في قصر شنقايا.
وفي مراجعة سريعة لتاريخ العلاقة الشائكة بين السلطتين التنفيذية والتشريعيّة، يلاحظ المراقب أنّها لم تصل في يوم من الأيّام إلى المستوى الحالي من التوتّر. فكان جميع الوزراء ورؤساء الحكومات يدركون أنّ أي انتقاد يوجّهونه إلى القضاة يعرّضهم للمحاكمة الفوريّة.
ويرى البعض أنّ بذور التوتّر بين السلطتين الثانية والثالثة في تركيا، زُرِعَت منذ قرّر الجيش التوقّف عن الانقلابات الدمويّة على الحكومات التي لا تتوافق سياساتها مع الدور الذي رسمه لنفسه. والبديل عن هذه الانقلابات كان إيلاء الجهاز القضائي صلاحية القيام بانقلابات قضائيّة، تعبّر عنها السلطة الهائلة التي تتمتّع بها المحاكم في رسم وجهة الحياة السياسيّة، أكان في صلاحيّة حظر الأحزاب أم منع السياسيّين من مزاولة العمل السياسي، أم نقض التعديلات الدستوريّة التي يقوم بها البرلمان...
وتظهر في هذا السياق، إشكاليّة جدية قد تكون صالحة لتبرير المعركة الكلاميّة التي نشبت بين الحكومة والقضاء. فإصلاح الجهاز القضائي كان ولا يزال مطلباً أوروبياً مزمناً لتسهيل مفاوضات عضويّة تركيا في النادي الأوروبي. والإصلاح هنا كلمة لا تفسير لها سوى انتزاع عدد من الصلاحيات السياسيّة التي تتمتّع بها المحاكم العليا. وبرنامج أردوغان وفريقه يقوم أولاً على فعل كل شيء لتسهيل نيل البطاقة المؤهّلة إلى التوجه نحو بروكسل. توجّه يعارضه بشكل متفاوت معظم من يضعون أنفسهم اليوم في خانة المعارض لكلّ من الحكومة وهرولتها الأوروبيّة المنفلتة من كل قيود.
تبقى الإشارة إلى النقطة التي قد تكون الأهمّ في المناوشات الكلاميّة الحادّة بين الطرفين. فمع مرور الوقت، يقترب موعد إصدار الحكم في «دعوى يالتشينكايا». ولا تزال الترجيحات تشير إلى أن الحكم سيكون سلبيّاً للحزب الحاكم ولأردوغان نفسه. وقد يكون الأخير ــ بعدما استسلم للقدر ويعدّ العدّة حاليّاً لما بعد حلّ حزبه ــ قد قرّر إضعاف الجهاز القضائي قدر المستطاع قبل تنظيم انتخابات عامّة مبكّرة وتسلّم حكومة جديدة (يُرَجَّح أن يكون أردوغان بمثابة رئيس لها من خلف الكواليس). هكذا، قد يكون أردوغان عدّل من جدول أعماله ومواعيده في معركته ضدّ خصومه. كانت أولويّته السابقة تُختَصَر بتعديل الدستور لا بل باستصدار دستور جديد. عاد عن قراره فجأة، ويبدو أنه قرّر الآن الاستفادة من الأسابيع أو الأشهر الباقية له للضرب على مسمار القضاء السياسي لإضعافه قدر المستطاع بشكل يكون خليفته في موقع مريح نسبياً في وجه خصم مرهَق.