حسن شقرانيهناك توازن قائم في أوروبا. وما ظهر خلال مأدبة العشاء المحضّرة لقمّة حلف شمالي الأطلسي في بوخارست، أوّل من أمس، أوضح أنّ قطبي الدول الغربيّة في القارة القديمة، ألمانيا وفرنسا، يدركان تماماً مدى جدوى الحفاظ على العلاقات مع موسكو في دائرة تحتوي توتّرات السياسة والطاقة.
الخطاب الذي استخدمه الرئيس الأميركي جورج بوش، قبل المأدبة، حول ضرورة قبول دول «الأطلسي» بالديموقراطيّات الأوروبيّة، كان مستقى، كالمعتاد، من قاموس مثالي يرى أنّ جميع خيارات الدول الحليفة وتلك الممانعة أو المارقة أو المواجهة (يختلف المصطلح بحسب نفوذ وقدرة «الدولة المستهدفة») تخضع لآليّة التوازن بين الخير والشر... بين الديموقراطيّة وبين النظم السياسيّة ــ الاقتصاديّة الموجَّهة.
كذلك، فإنّ إعرابه عن إيمانه بأنّ الحلفاء الأوروبيّين سيقبلون بعضوية جورجيا وأوكرانيا في الحلف يصبّ، في المرجو منه، في إطار حشر «الحلفاء» المذكورين في زاوية عنوانها: لا تقلقوا من رفض موسكو لتوسّع «الأطلسي» نحو حدودها لأنّ رسالة الحلف العسكري واضحة وسليمة. ومن يعارضها يكون يعبث، استفزازياً، بمصالح أعضائه، من أجل تحقيق مصالحه الاستراتيجيّة في «القطر السوفياتي».
إلّا أنّ ما غفا عنه بوش هو أنّ الأوراق الاستراتيجيّة التي خلطتها موسكو، أودعت أيّ «خيار أوروبي» في خانة «ضرورة احترام» رأيها، لأنّ «العواقب» تبدأ بالطاقة (الغاز في المقدمة حيث 25 في المئة من استهلاك أوروبا منه يأتي من روسيا) وتمرّ بالتوازنات العسكريّة (تهديد موسكو بتوجيه صواريخها نحو أوروبا إذا شعرت بسخونة تهديد «الأطلسي») لتنتهي بالمواجهة الدبلوماسيّة، وهي حال التوتّر القائم مع بريطانيا بسبب قضيّة اغتيال الجاسوس الروسي السابق ألكسندر ليتفينينكو.
طبعاً بوش لم يغفل الأمر، وإدارته تعرف تماماً حجم التحدّي الذي تواجهه في عامها الأخير، في ما يتعلّق بخلق وجود عسكري جديد في وسط أوروبا لمجاراة التغييرات الدراماتيكيّة الجارية في شرقها. إلّا أنّه لا بدّ من رفع سقف التوقّعات بالنسبة لمنح الجمهوريّتين السوفياتيّتين السابقتين حقّ الدخول إلى «الأطلسي» إلى جانب الإصرار على المضي قدماً في مشروع نشر منظومة الدفاع الصاروخيّة في تشيكيا وبولندا.
ومثلما يسعى بوتين إلى تهدئة العلاقات نسبياً مع الجمهوريّات السوفياتيّة السابقة، تحضيراً لتسلّم خليفته ديميتري ميدفيديف سدّة الرئاسة، يحاول جورج بوش إنهاء الأشهر الأخيرة من ولايتيه، عبر تعويض فشل إدارته في الملفّات السياسيّة (السلام الإسرائيلي ــ الفلسطيني والمسألة الإيرانيّة) وفي الملفّات العسكريّة (العراق وأفغانستان) من خلال إبقاء حبل الوريد حياً للطموحات الأوروبيّة.
هنا دخل عامل «أمن الطاقة» الأوروبي، ليرجّح كفّة «طرح بوتين». ويبدو جلياً مدى الإقناع الذي حقّقته الجهود الروسيّة خلال الأسبوع الذي سبق القمّة، في مقابل هدر تمثّل بالاتصالات الهاتفيّة المكثّفة التي أجراها بوش مع المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل لتطويع موقف برلين المستاءة أساساً من المقاربة الأميركيّة للحرب القائمة في أفغانستان.
وإن كان الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، قد حسم ولاءه المطلق للتوجّه الأميركي في أفغانستان تحت عنوان «ضرورة المضيّ بالحرب ضدّ المتطرّفين حتى النهاية»، إلّا أنّه توافق مع ميركل على وجوب عدم المخاطرة مع موسكو من خلال المراهنة بـ«أمن الطاقة» كي تحظى واشنطن بشرف ضمّ دولتين مجاورتين لروسيا إلى حلف هي المؤثّر الرئيسي فيه.
لقد علقت مصالح «أوروبا القديمة» بين النشاط الروسي لإعادة صياغة ما أتلفته حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبين «سعي» إدارة أميركيّة، رؤيتها عقيمة، لتعويض خسائرها في ملفّات كثيرة. مصالح تحقّقت في موضوع انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى «الأطلسي»... حتى بالنسبة إلى أقرب الحلفاء للإدارة الأميركيّة، لم يعد موضوع «الاهتمام بالديموقراطيّات الناشئة» جذّاباً.