strong>من قال إنّ الاحتلال لا يأتي عرضيّاً بفوائد على أهل البلد؟ ومن قال أيضاً إنّ العراق الذي محا الأميركيّون حيّزاً كبيراً من ثقافته العريقة، غير قادر على ابتداع أشكال جديدة من الآداب من طريق التكنولوجيا الحديثة التي لم تدخل البلاد إلا على ظهر الدبّابات؟ «الرسائل القصيرة» على الهواتف النقالة، مثال عن استثمار شعب محتلّ لما تيسّر لكي يحفظ شيئاً من قرفه من الوضع السائد
بغداد ـــ زيد الزبيدي
عند تعداد «المكاسب» التي حقّقها الاحتلال للعراقيّين، لا بدّ من ذكر أنّه سمح باستخدام «الستلايت» أو الصحون اللاقطة، التي كانت محظورة في عهد النظام السابق. إلّا أنّ هذه التكنولوجيا، وهي قديمة نسبياً، لم يستفد منها العراقيّون كثيراً، بسبب شحّ الكهرباء طوال السنوات الـ 5 الماضية. غير أنّ أهم ما يمكن تسميته «مكاسب»، هو إدخال خدمة الهاتف النقال، الذي أصبح من أهمّ مستلزمات المواطن العراقي، لانعدام الاتصالات الهاتفية الأرضيّة، وبسبب قطع الطرق وإغلاق المناطق باستمرار، الذي يشمل في أحيان كثيرة قطع اتصالات الهواتف النقالة أو التشويش عليها، ولا سيّما عند وجود آليات أميركيّة، لتلافي خطر تفجيرها عن بُعد باستخدام هذا النوع من الاتصالات.
يدرك العراقيّون أنّ انتشار هذه الأجهزة، وتعطيل شبكة الهواتف الأرضية، هو لتحقيق أرباح فلكية للشركات العاملة في هذا المجال، التي يسهم فيها مسؤولون حكوميّون كبار. مصلحة لا تمنع أنّ هذه الوسيلة تؤدي خدمات كبيرة بالنسبة إلى المواطنين. فالاطمئنان على الأعزّاء عند خروجهم من المنزل وعودتهم، أو وجودهم في مناطق مضطربة، مهمّة مستحيلة من دون هذه التقنيّة. بيد أنّ خدمات اجتماعيّة أو «ثقافيّة» أتى بها الخلوي، وهو ما بات يطلق عليها العراقيّون تسمية «أدب الرسائل القصيرة». فعندما تختلط مواويل الحزن بالشوق الجارف للأهل والأصدقاء، وكل من غادروا مضطرّين مناطقهم، يستيقظ الشعر الذي فطر عليه العراقيون، ليترجموا من خلاله معاناتهم، ولو بشكل عفوي بسيط. «شعر» تتناقله أجهزة الخلوي، للتعبير عن مشاعر مختلفة، من أحاسيس مرهفة دفينة، أو عن غضب، وفي أحيان كثيرة يكون ذلك عبر سخرية مريرة، فتُعمَّم بسرعة فائقة بين الهواتف الجوّالة.
وفي هذا السياق، يقول الشاعر الشعبي شاكر لطيف الحسناوي: «لا يمكن أن نعتبر أدب الرسائل القصيرة شعراً، لأنّه غالباً ما يخلو من مواصفات الشعر، ولكنه في كل الحالات نوع من الأدب الشعبي الحي، الذي أملته ظروف القهر والاغتراب والاحتراب التي أوجدها الاحتلال، فأصبح متنفّساً لكلّ مشتاق ومهموم ومازح من شدّة ألمه».
ويعطي الحسناوي أمثلة حيّة، فهذه المقطوعة مثلاً، ليست من الدارميات: «وطني يسعد صباحك. لِمّ الشمل لملم جراحك. ودّي أشوفك يوم تضحك. متى الحزن يطلق سراحك؟». ويشير إلى أنّ «الصورة الشعرية في هذه العبارة واضحة، لأنّ الحزن عبارة عن جدران وأسلاك شائكة وحرّاس مدجّجين بالسلاح، والسجين هو العراق». ويرى الشاعر بأنّ هناك الكثير من النماذج الأدبية «العالية الجودة، على بساطتها، تتطلّب البحث عنها وفيها، وتدوينها، والاهتمام بها كنموذج لأدب مرحلي مهم».
ولا يقتصر تعبير «أدب الرسائل القصيرة»، على الوطن السجين وحسب، بل يتناول التفاصيل الحياتيّة أيضاً، حيث شوارع بغداد وأحياؤها مغلَقة ومقسّمة، بالجدران الكونكريتية والأسلاك الشائكة والعسكر، فلا يستطيع الصديق أن يلتقي صديقه، ولا أن يلتقي الحبيب حبيبته، لأنه حتى إذا وصل إلى المكان المقصود، فلن يتمكّن من العودة إلى منزله. وعن هذا الموضوع، درجت الكلمات الآتية على الهواتف النقّالة: «شرطة وحرس وأسلاك واليجي وين يروح، بالشارع يبات؟». هكذا هي بغداد التي كانوا يسمّونها «مدينة السلام»، وعلى الرغم من ذلك يقول عنها محبّوها «مخلوقة بالقدرة من طين، والله خلق بغداد من مشمش وتين». وللرسائل القصيرة تعبيراتها العاطفية التي يمكن أن تمتزج بها التكنولوجيا الحديثة، مثل «رام» (ذاكرة جهاز الكومبيوتر). وهنا يختلط الشعبي الدارج بالعالمي، كما في «القلب نصّ الليل حنّ وذكركم، والعقل صاير رام يخزّن صوركم»... إنّها صور شعبية بتكنولوجيا العولمة.
ويقول أسعد العبد، صاحب محلّ لبيع أجهزة الخلوي في منطقة السيدية، إنّ «الاحتلال هو الأسوأ في كل شيء، ولكن ربما كانت الحسنة الوحيدة له، هي إدخال أجهزة الخلوي ونشرها، بحيث أصبح جزءاً من حياة العراقيّين، وخاصة عندما يريدون الاطمئنان إلى عزيز لهم عندما يتأخّر، أو عندما يكون في منطقة حدثت فيها أعمال عنف، أو ربما وشى به المخبرون الذين يتقاضون ثمناً في مقابل تقديم معلومات طائفية أو سياسية تؤدّي إلى إطاحة رأس المَوشيّ به». وعن موضوع المخبرين بالذات، تنتشر عشرات الرسائل القصيرة الساخرة أيضاً.
العبد يلفت نظرك إلى أنه لا يبيع الأجهزة والخطوط فقط، «بل تزدهر تجارتنا أيضاً في إدخال النغمات الخاصة بالخلوي، وبيع الكراريس المطبوعة بأجهزة الاستنساخ، التي تضمّ مختلف أنواع الرسائل القصيرة، وهي تلقى رواجاً جيّداً، ولا سيما التي تحتوي على عبارات الشوق، والمشاعر الوطنية».
ولأنّ «أدب الرسائل القصيرة» سريع التأقلم مع التطوّرات «الوطنيّة»، فقد ازدهر في «معركة» تغيير العلم، وصار المعارضون لتغيير علم بلادهم يتناقلون العبارة: «تاج إنت فوق الرأس تاجك عراقي، شامخ يظلّ مرفوع وانت باقي».
وتسخر إحدى الرسائل بمرارة من ألاعيب الساسة، وعجزهم عن معالجة قضايا الناس وشؤونهم، ما دفع العديد إلى اعتبار أنّ فكرة تغيير العلم الوطني جاءت لمجرّد إلهاء الشعب بقضايا تبعدهم عن الأساسيات الحياتية، فتقول: «شافو دماءنا تسيل، لم يغيّروا الأوضاع فغيّروا علمنا».
وبحسب الكاتب الصحافي مهند عبد الحي، فإنّ «أدب الرسائل القصيرة» لا يختلف عن فنون الأدب الأخرى، وهو على الرغم من كونه مستحدثاً، فهو يدخل في إطار الأدب الشعبي لكونه فرعاً له خصوصيته المستمدّة من استخدام التقنية الحديثة. وعندما نصفه بأنّه فن أدبي، فهو يحتاج إلى دراسات فنية ونفسيّة وسياسية واجتماعية، ولا سيما أنّه يتناول كل نواحي الحياة التي تناولتها الفنون الأخرى، بل بات انتشاره أوسع من كلّ الفنون الأدبية الأخرى.