حسن شقرانيمن أجل التخلّص من المعايير البالية التي حكمت المؤسّسات الروسيّة خلال الحقبة الظلاميّة ـــ اتفاق السياسة مع مشاريع الأوليغارشيّين في إطار دولة الفوضى ـــ استبدلت الإدارة الشابّة للرئيس فلاديمير بوتين عام 2002 170 ألف «معيار حكومي» ببضعة آلاف «شرط تقني»، خصّت السلع المنتجة ومدى سلامتها لدى الاستهلاك.
سعت تلك الإدارة إلى إنشاء «دولة حديثة» بالمعايير التقنية. ومن أجل الانطلاق، كان لا بدّ من إيلاء الاقتصاد الحصّة الأكبر من الاهتمام: الهدف هو إخراج القطاعات الحيويّة من سبات الفساد، بعد عقود من سيطرة هيئات التخطيط المركزي (غوسبلان) على مفاصل الاقتصاد، وعقد واحد كان كافياً لتعميق الهوّة أكثر بين «إحياء البلاد رأسمالياً» وبقائها في حفرة «بلاد سقطت في غياهب البحث عن الجنّة على الأرض»، من خلال «البيان الشيوعي» و«ما العمل؟».
مشاريع إعادة الاعتبار إلى «الحكومة»، عبر بسط سيطرة مفقودة على القطاعات الحيويّة، انطلقت لتتحقّق عبر أكلاف مختلفة، غامضة في بعض الأحيان (حال المالك السابق للشركة النفطيّة «يوكوس»، ميخائيل خودوركوفسكي، المحكوم عليه بالسجن لمدّة 9 سنوات، بدءاً من العام 2004)، وفي أحيان أخرى جريئة بمستويات لا تستطيع عندها مواجهة «التسلّط»، في ظلّ طروحات تشدّد في كلّ لحظة على الأمن القومي واستراتيجيّات النهوض، وضرورة «فعل ما يلزم» لاستعادة المكانة المفقودة.
واستطاعت تلك المشاريع، التي تديرها الشركة العامّة «روزوبورونكسبورت» الضالعة في عمليّات التأميم الحديث (من خلال الاستيلاء، شراء الأسهم في الشركات المستهدفة...)، مدعومة بارتفاعات خياليّة في أسعار النفط، تطويع الواقع الروسي وخلق معادلة جديدة: الحراك على صعيد السياسة المتمثّل بإحكام «طبقة الجواسيس الوطنيّين السابقين» قبضتهم على البلاد، يوازيه نمو في سيطرة الدولة على الاقتصاد.
ذلك النمو الذي أنتج بطبيعة الحال دولة مركزيّة جديدة، كانت مسؤولةً عنه بالدرجة الأولى (إضافة إلى العوامل شبه الموضوعيّة: استغلال رشيد للموارد الطبيعة) وزارة الصناعة والطاقة منذ عام 2002، وفي استخلاص لمدى نجاحها، تحدّث رئيس «اللجنة الفدراليّة للمعايير التقنية»، غريغوري إلكين، عن مسودة قانون جديد لـ«توحيد المقاييس»: إجراء يحمل في طيّاته عودة إلى النموذج السوفياتي لوحدات القياس المعتمدة في الدولة القوميّة الحاضنة للاقتصاد الموجّه.
إذاً، فالاقتصاد الروسي ماض بكلّ ثقة على طريق التأميم (قطع أشواطاً هائلة في هذا السياق)، وعلى الرغم من ذلك، تبقى قطاعاته جذابة لأموال الاستثمار الأجنبيّة... الرأسمالي خشي روسيا في الحقبة السوفياتيّة، ومن ثمّ عشقها خلال سيطرة أوليغارشيّتها المتوحّشة، والآن يساوم مع حكّامها على مستوى الأرباح... من قال إنّ الدولة تاجر فاشل؟