strong>طوني صغبيني
لا شكّ في أن البابا بنديكتوس السادس عشر، كان شديد الاغتباط خلال زيارته الأولى للولايات المتحدة التي بدأها أمس، فهو يرى أنه يطأ أرضاً لم تتخلّ عن «الإيمان»، وهي، بعكس أوروبا، «لم تُدِر ظهرها لجذورها المسيحية»

جولة البابا بنديكتوس السادس عشر في الولايات المتحدة لا تكون عادة كمثيلاتها من الجولات على الدول الغربية. فهذه الدولة، بحسب مؤسسيها البروتستانت، هي «أرض الميعاد الجديدة». وهي لا تزال حتى اليوم، رغم علمانيتها، تعُدّ نفسها ذات إرث مسيحي (بروتستانتي) ــ يهودي. والله حاضر في كل مكان فيها (بعكس الدول الأوروبية التي حذفت أي ذكر لله من مؤسساتها الرسمية وقوانينها): الإيمان بالله معلن على عملتها، وعلى قبة الكونغرس والمحاكم، وفي قسم الرئيس. والشعب الأميركي هو، إحصائياً، الأكثر تديناً بين كلّ الشعوب الغربية.
استحقت الولايات المتحدة جولة بابوية لستة أيام، بجدول حافل يبدأ بلقاء الرئيس جورج بوش في واشنطن، وينتهي بصلاة عن أرواح ضحايا أحداث الحادي عشر من أيلول في موقع برجي التجارة العالميين. لكن التلويح للحشود وتناول العشاء في المكتب البيضاوي، لن يكون كافياً لبنديكتوس، هذه المرة، لمواجهة الأزمات الخطيرة التي تواجهها الكنيسة هناك.
التحدّي الأكبر خلال الزيارة، يكمن من دون شكّ في استيعاب سلسلة الفضائح الجنسية التي هزّت الكنيسة الكاثوليكية الأميركية، والتي أفقدتها خلال السنوات الأخيرة، نحو سبعة في المئة من مؤمنيها (من أصل 31 في المئة من الأميركيين الذين نشأوا كاثوليكاً، لا يزال 24 في المئة فقط يعدّون أنفسهم كاثوليكيين).
عدد القضايا الجنسية التي تورّط بها كهنة كاثوليك خلال النصف الأخير من القرن الماضي خيالية؛ أشار تقرير نشر في عام 2004، إلى 10667 قضية ادعاء بالتحرش أو الاستغلال الجنسي ضد كهنة، أدين فيها 4392 منهم، من أصل 110000 كاهن، خدموا في الولايات المتحدة بين عامي 1950 و2002.
بالإضافة إلى ذلك، يزيد التشدد الديني المعروف للبابا، من المسافة التي تفصله عن الأميركيين، ولا سيما ما يظهر من معاداته للعلم (مثل انتقاده مفهوم النسبية السائد في المجتمعات الغربية)، ومواجهاته مع الأديان الأخرى (محاضرته المثيرة للجدل عن العنف في الإسلام في عام 2005، وإعادة العمل بصلاة الجمعة العظيمة التي تنتقد اليهود)، فضلاً عن المواقف الكاثوليكية التقليدية بإدانة العلاقات الجنسية ورفض الإجهاض ومثليي الجنس وأبحاث الخلايا الجذعية، والعديد من الأمور التي يراها الأميركيون من مقدسات حريتهم الفردية.
على صعيد آخر، من المرجح أن تحتل علاقة الفاتيكان مع واشنطن حيزاً لا يستهان به من الزيارة؛ فالكرسي البابوي، في عهد بنديكتوس، خفّف حدّة موقفه من الحرب الأميركية في العراق. وتشير تصريحاته الأخيرة إلى اعتباره القوات الأميركية في بلاد الرافدين، «قوات حفظ سلام» بدل قوات احتلال. ولا يقتصر اتجاه البابا في هذا المجال على العراق، فهو يميل منذ تسلمه منصبه إلى «التركيز على كل ما له صلة بالكنيسة»، والاكتفاء «بالتذكير بالمبادئ» بالنسبة إلى القضايا السياسية والعالمية الأخرى، بحسب تعبير أحد الدبلوماسيين في الفاتيكان لوكالة «أسوشييتد برس» الأسبوع الماضي.
وما سيكون محوراً أساسياً في اللقاء مع بوش، هو مسألة «الدفاع عن الأقليات المسيحية في العالم»، التي تزايد الحديث عنها في الفاتيكان في الآونة الأخيرة. واللائحة في هذا المجال طويلة، تبدأ من الصين وصولاًَ إلى أفريقيا. لكن القضية الأكثر إثارة للجدل في هذا المجال، هي دون شك وضع المسيحيين العرب، وخصوصاً المعتنقين الجدد منهم. ولعلّ قيام بنديكتوس، شخصياً وعلنياً، بتعميد الصحافي المصري الأصل مجدي علام، بعد أسبوع واحد من صدور تقرير يفيد بتجاوز المسلمين عدد الكاثوليك في العالم، للمرة الأولى في التاريخ، يدلّ بوضوح على اتجاه الفاتيكان للضغط في هذا المجال (وبالتالي لن يكون غريباً إعلان واشنطن قبول المزيد من اللاجئين العراقيين المسيحيين بعد الزيارة).
عهد الرئيس الأميركي الحالي، الذي شنّت خلاله حربان، هو الأكثر دموية حتى اليوم في تاريخ «بلاد الإيمان». لكن رغم ذلك، يعوّل الحبر الأعظم على مشاركة الرئيس الأميركي في الدفاع عن المسيحية في العالم (وهم يتشاركان بالفعل في عدد من القضايا مثل معارضة الإجهاض وقتل الرحمة وأبحاث الخلايا الجذعية...). لعلّ السر في ذلك يعود إلى علاقتهما المشتركة بالله: واحد يرى نفسه ممثله على الأرض، والآخر يعتقد أنه يشنّ الحروب بوحي منه.