strong>هل هناك انقسام بين النخبة الحاكمة في مصر؟ هل المعارضة منقسمة؟ المعارضة الجديدة تنفصل بحدة عن القديمة. ومجموعات جمال مبارك تختفي. الى أي حد ستتغير الخرائط؟ هل تعود الأسعار إلى ما قبل ٦ نيسان؟ وهل تختفي معارضة «الفيس بوك» بعد ٤ أيار؟ وهل ينحصر رفض التوريث في مبادرة وطنية أعلنت هذا الأسبوع وبيان يجمع التوقيعات من دون أفق سياسي؟
وائل عبد الفتاح

أين جمال مبارك؟
«الرئيس محظوظ»، اعترض الرجل الخمسيني على ملاحظة ابنه وصحح له: «إنه معلم. يعرف متى يظهر ومتى يختفي عن الأنظار». تعجّب الابن، لكنه اعتمد على خبرة أبيه، عضو المجلس المحلي في المحافظة والمخضرم في فنون الحياة. ضحك الابن من مفارقة حدثت لأبيه في أول يوم في المجلس، حين حضر جلسة الإجراءات وكان وقتها تابعاً لمحافظة الجيزة، ثم فوجئ في المساء بأن القرية التي يمثلها أصبحت في محافظة أخرى (الفيوم)، فالرئيس قرر أن يعيد رسم حدود المحافظات، وأضاف محافظتين جديدتين في مفاجأة ستكشف الأيام عن سرها. وإن كان الابن قد رأى أنها محاولة في صنع متاهة للشعب كي لا يفيق أو ربما كان يهيئ الفرصة لجمال، ابن الرئيس، لخلافة أبيه المخضرم في الحكم. الابن لم يجد مانعاً في تولي جمال «ومن غيره يصلح؟». ويشرح أسبابه: «إنه تربى في جوار أبيه وشرب خبرة الحكم. كما أنه شبع، أي إنه لن يسمح بالسرقة. هذا بدلاً من أن ننتظر شخصاً جديداً يسرق من البداية». هذه الحقيقة خشنة تماماً وتعبِّر عن تصور شعبي يرى من الأساس أنه لا علاقة للناس باختيار الرئيس. إنها مسألة عليا. المهم هو «لقمة العيش» و«الأسعار». هذا هو الانطباع السائد عن اهتمام المصريين بما يحدث في القصر العالي. هم يرونه قصراً وعالياً فعلاً، سواء أيام الملوك أو الرؤساء، ويتناقلون حديث التوريث بإحساس النميمة أكثر من الغضب. وبالنسبة إليهم، الرفض لن يغيّر شيئاً. التوريث موضوع نخبة. لأن الرئيس وريث يختاره الرئيس السابق، كما حدث مع أنور السادات ثم مع حسني مبارك. لم يتغير شيء كبير إلا في كون الوارث أصبح من العائلة والجمهورية اقتربت من الملكية. الوراثة ثقافة قديمة في مصر، لكنها لا تصل إلى هذا الحد، كما أعطى الأب المخضرم درساً لابنه: «الرئيس تدخل في الوقت المناسب. عاد وأمسك الأمور كلها بيديه من جديد وقال للجميع إنه موجود». الأب فسر الوجود اليومي للرئيس مبارك بأنه استعادة للقبضة القديمة. التفسير مناسب أيضاً لاختفاء جمال مبارك عن الواجهات. صورته لم تعد موجودة في صحف قريبة من الحكومة. وأزمات الأسعار والخبز ضخت دماءً في شرايين الحرس القديم. جمال ومجموعته أُزيحوا إلى هوامش، بينما ظهر الرئيس يتحدث عن العلاوة الاجتماعية وإجراءات حماية الفقراء من الأسعار، واختفت أصوات الإصلاح الاقتصادي على طريقة لجنة السياسات، التي كانت «عربون محبة من جمال مبارك للأميركيين وبطاقة اعتماد الأخير له في واشنطن»، كما قال سياسي خبير في إشارات ورسائل أهل الحكم إلى عواصم سيادة العالم.
اختفى جمال مبارك؟ لكن إلى متى؟

جمهوريّة العواجيز
«يوم أسود». اختار شباب إضراب ٤ أيّار لون اليوم، كما اختاروا موعده (في العيد الثمانين للرئيس حسني مبارك)، ومثّل الاحتجاج (سيرتدون ملابس سوداء حداداً على الديموقراطية وسيكتبون على الأوراق المالية: لا لمبارك).
مجموعات الإضراب على الـ«فايس بوك» حطّمت رقم ٦ نيسان، ووصلت إلى ٢٥٠ ألف مشترك يجمعهم مزاج غاضب حادّ بأفكار طازجة تسخر من النظام والمعارضة معاً. لنظام نجح في فرض سنوات من الرعب. وبدا لأطبّاء التحليل النفسي أنّ هذا الرعب يثير متعة رجال النظام ويمنحهم الطاقة والحيوية. هذا تفسير من فنان عاش زمن ثورة الطلاب عام ١٩٧٢، وابتعد عن السياسة الخرساء في السنوات الأخيرة. فنّان يري أنّ مصر تعيش فيلماً أبطاله مجموعة من «العواجيز»، متعتهم هي السلطة والثروة. وسرّ استمرارهم في الحياة هو رغبتهم القصوى بالمزيد. ولو ابتعدوا عن السلطة ومناطق الثروة يوماً واحداً، فستتساقط أجسادهم وربما يموتون. «جمهورية عواجيز تحكمنا»، هكذا لخّص الفنّان النخبة الحاكمة في مجموعة تعيش شيخوختها بطريقة مدمرة، «يستمدّون طاقة الحياة من إثارة الرعب فينا، والإمعان في شعورنا بأننا نُساق إلى أقدار سياسية، وأننا لن نستطيع الإفلات من قبضتهم. عواجيز تُشحن طاقتهم يومياً بممارسة القهر، يستمتعون بمشاعر الغضب والإحباط والتشاؤم. هي المنشّطات التي تجعلهم مستمرّين في الحياة».
وبالفعل، ما يحدث لرجال النظام بعد أن يبتعدوا عن السلطة: الوزير السابق كمال الشاذلي ظهرت علامات العجز عليه بمجرد خروجه من السلطة. يوسف والي (وزير سابق أيضاً) بشكل أكبر...
سيتكرر السيناريو مع رئيس مجلس الشورى صفوت الشريف، ورئيس مجلس الشعب فتحي سرور، ورئيس ديوان الرئاسة زكريا عزمي. ماذا سيفعلون إذا انسحبت الأضواء وزالت مقاعدهم؟ حسب قواعد الدراما السياسية، ستنتهي حياتهم بالتأكيد. ومن أجل ذلك هم مستمرون في مزيد من الإذلال والتعسف والتمتع بالقهر. ما الذي يجعل تظاهرة يشارك فيها 100 معارض يحاصرها بين 1000 و5000 جندي أمن مركزي؟ الأرجح أنها متعة بثّ شعور الرعب الضخم في كل من يفكر في التمرد والاعتراض. متعة ترتبط بإحساس الشيخوخة الذي لا يُخفى، وأهل الحكم في مصر يقاومونه بكل ما أوتوا من قوة. لهذا انتشرت صبغات الشعر (من الرئيس إلى أصغر وزير) ومكياج كثيف لحظة مواجهة أضواء التلفزيون (يشبه أحياناً مكياج الموتى في الطقوس اليابانية، حين يضعون على وجه الميت طبقة ثقيلة من مساحيق تخفي تجمد ملامحه). إنّها رغبة في الشعور بأنّ جمهوريتهم خالدة، وسلطتهم لا حدود لها، وقدرتهم على صنع الثروة لا نهائية. جميعها مشاعر تدفع إلى تثبيت الأوضاع القائمة وتوقيف الزمن. لمعارضة الجديدة تحاول تحريك الزمن (وهذا سرّ اختيار موعد يذكّر بعمر مبارك). تركّز هذه المعارضة على الرئيس ونظامه، لكنها لا تستثني دوائر المعارضة المحيطة، التي ربما تنقذ، من دون وعي، الشيخوحة المسيطرة. ؤلاء جميعاً ينظرون الآن بريبة تجاه المعارضة الصاعدة من أسفل من دون كوابح. معارضة تتصدر صورهم الصحف في ما يمكن تسميته بعملية تغيير جلد تلقائية. أجهزة الأمن تتصرف بارتباك تجاه «الزعماد الجدد». زعماء يستطيعون تحريك الآلاف، وهذا سرّ إخفاء إسراء عبد الفتاح الملقّبة بـ«رئيسة جمهورية الفايس بوك». الأمن أعاد اعتقالها كما يفعل مع أخطر عناصر الجماعات الخطيرة. ورغم أن إسراء ليس لها نشاط ملحوظ، لكنها تملك قدرة التعامل مع وسائل لم تخضع لسيطرة الأمن التقليدي بعد.
والمشهد سيكون غريباً إذا نفّذت المتضامنات مع إسراء التهديد بأن يخلعن الحجاب أمام البرلمان من أجل إعلان أن نواب البرلمان لا يحافظون على «حرمة» بنات مصر. وهي خطوة عكسية لفكرة التحرّر التي خلعت من أجلها هدى شعراوي الحجاب في العشرينيات، لتعلن أن النساء لسن «حريماً»، ووجودهن ليس «حرمة».
هي رغبة جيل في التغيير. ليس الرئيس ونظامه فقط، بل المعارضة القديمة المرتبطة بأساليب الانكفاء في مقرّات الأحزاب، انتظاراً لمكالمة من مسؤول أو ضابط أمن دولة. لأنّ «زعيم» الحزب المعارض يعرف أنّه في موقعه، نائب عن الدولة. محافظ على النظام. وإذا خرج عن الاتفاق، فسيقود حزبه إلى النهاية.
هكذا أصيبت المعارضة بالشيخوخة المبكرة (لكنها شيخوخة المحكومين). حتى جماعة «الإخوان المسلمين» تحوّلت إلى جسم كبير، يعيش على أوهام قوة خرافية، تحت إدارة تحاول الحفاظ على الجسم بقطع أطراف حركته. لم يكن غريباً أن يتمرّد ٧٠٠ من شباب «الإخوانعلى قرار مقاطعة الإضراب وينضموا إلى جيل التمرد الجارف، ويكتبوا عبارات من نوع «لا طاعة لمرشد إخوان الحكومة».
التيار أكبر من «كفاية» حتّى؛ رفض منظّمو إضراب نيسان وأيار تصريحات جورج إسحاق، المنسّق المساعد الذي أوحى بأن الإضراب خرج من عباءة الحركة. الرفض هو إعلان عن «عدم الانتماء» لأي تنظيم أو تيار سياسي محدّد، إعلان تبرئة وهروب من تنظيمات اللحظات السابقة. نها لحظة ميلاد تيار جديد بلا خبرات، سوى أشكال التمرد المراهقة الحادّة والعفوية والمتطرفة في كراهيتها للسلطة. تيار من دون مشروع سياسي ولا رأس، وهذا ما يعطيه الحيوية وينذر بالخطر منه في الوقت نفسه.

«التحالف المقدس»

رغم مظاهر الصدام بين «الإخوان» والحزب الحاكم، إلا أن رابطاً خفيّاً يجمعهما لمواجهة محاولات الخروج عن المألوف باتت لها صفة القداسة. قد تكون وسائل الاثنين مختلفة، لكن الهدف مشترك ليبقى الوضع على ما هو عليه
«انتصرنا»، هتفت مجموعة صحافيين احتلت النقابة وحاربت بالعصي ومواسير البلاستيك لكي لا يقتحمها «الأعداء». مشهد لا ينسى في تاريخ نقابة الصحافيين. المجموعة المحتلة ترتدي ألبسة النوم وتهتف بهستيريا شعارات لا يستوعبها الواقفون أمام البوابة المغلقة. كلهم من المدعوين إلى مؤتمر «مصريون ضد التمييز»، ولم يتوقعوا أبداً أن تعسكر مجموعة من أجل منع المؤتمر بالقوة، يتزعمها عضو مجلس النقابة، جمال عبد الرحيم، الذي نجح في الانتخابات الأخيرة، ووُصف وقتها بأنه «مندوب الأمن» في النقابة. لكنه في وقفته المثيرة كزعيم احتلال النقابة، تغيّرت صفته، وقيل إنه «إخواني مستتر».
ومجموعة الاحتلال خليط من «الإخوان» و«الحزب الوطني»، اتهمت المؤتمر بأنه «مؤامرة على الإسلام»، لأنه يستضيف بين المتحدثين أستاذة جامعية تدافع عن البهائية. ومما ورد في شكوى المتحدث باسم المؤسسة المنظّمة «مصريون في وطن واحد»، سامر سليمان: «ادّعوا كذباً أن المؤتمر المزمع هو مؤتمر للبهائيين، لمجرد مشاركة مواطنة بهائية فيه، واتهموا جماعة دينية مصرية ــــ البهائيين ــــ بالشذوذ الجنسي، وبمضاجعة أمهاتهم، من دون أي سند أو دليل. كما استخدموا ألفاظاً مخالفة لآداب مهنة الصحافة بوصفهم أستاذة جامعية في كلية الطب في جامعة القاهرة، د. بسمة موسى، بأنها عاهرة». كما «روّجوا أكاذيب تضر بسمعة النقابة، وخصوصاً في ما يتعلق بموقف النقابة من قضية التطبيع مع إسرائيل.
مجموعة الاحتلال نجحت، لأنها منعت حتى النقيب مكرم محمد أحمد من دخول النقابة، ولاحقته بتهم العمالة والخيانة. وفشلت مفاوضات استمرت ٤ ساعات في إقناع المحتلين بإقامة المؤتمر، لأنه بعيد عن الأفكار التي يروّجون لها، ولأن النقابة ملتزمة بعقد بينها وبين المؤسسة مدفوع الأجر. شارك في المفاوضات الصحافي مصطفى بكري، الذي كان في صف أن المؤتمر «مؤامرة إسرائيلية»، رغم معرفته بأن رموز المؤتمر من النشطاء المعروفين كليبراليين ويساريين لهم سمعة حسنة. كنه صدام يوحّد المختلفين وتستخدم فيه اتهامات جاهزة: العمالة والخيانة، وأسلوب واحد: البلطجة الفكرية المباشرة. ل الباب مغلقاً، والأمن بعيد، حتى نُفّذت شروط المحتلين، ونُقل المؤتمر إلى مقر حزب «التجمع». هذه عملية اختطاف كاملة الأوصاف، فُرض فيها الرأي بالقوة الهستيرية. المختطفون بدوا كأنهم يدافعون عن قيم كبرى كـ«الإسلام والوطنية»، لكنهم استخدموا الغوغائية وفرض الأمر بالقوة والقتل المعنوي للمختلفين، عبر كيل اتهامات أخلاقية (عمالة وشذوذ جنسي). خلطة تكشف عن الوجه المحافظ في صورته الدنيا.
يتحالف أصحاب الوجه المحافظ. يتخذون مرة شكلاً دينياً ومرة سياسياً. يتحدثون باسم الإسلام أو المسيحية أو باسم الوطنية المحفوظة في علب جاهزة. تحالف يستخدم أفكاراً تمنع التفكير. وهو ما حوّل قضية ختان الإناث في مصر إلى قضية سياسية.
طرح أخيراً قانون الطفل على مجلس الشعب وهاج التحالف المحافظ ضد ٣ مواد: الأولى تجريم ختان الإناث، والثانية محاكمة الآباء الذين يمارسون العنف البدني على الأطفال، والثالثة تسجيل الطفل باسم أمه في حالة عدم اعتراف الأب به.
المادة الثالثة كانت الأخف في المعارضة. والختان كان معركة قديمة. لكن فكرة ضرب الأبناء كانت المعركة الكبرى. وفي ندوة أقيمت قبل أيام لمناقشة القانون، وقف أحد الحاضرين معترضاً: «هل ستعلّمني الحكومة كيف سأربّي ابني؟». السؤال حرّك عواطف الحاضرين، ومنح المعترضين على القانون طابعاً إنسانياً في مواجهة حكومة مكروهة بالأساس.
القانون رُفض في مجلس الشعب من تحالف بين «الإخوان» و«الحزب الوطني». استخدمت التعبيرات والاتهامات نفسها: إنه لأجندة أميركية يريد هدم الدين والأخلاق والعائلة.
الكلمات كانت هستيرية، وتميل إلى الشعارات العاطفية، مثلما كانت هتافات مختطفي نقابة الصحافيين. ولأن حيوية الأفكار المحافظة تعيش في ظل الإحساس بالاضطهاد، فإنها تصنع عدواً، عادة ما يكون خارجياً: إسرائيل أو أميركا. يتضخم العدو في شعارات المحافظين لكي يهيّج المشاعر، وبدلاً من مناقشة قضايا مثل التمييز الديني أو معاملة الأبناء وفق منهج غير القمع، تخرج مصدات التفكير: الخصوصية والهوية، التي تبدو أسلحة فاسدة من تحالف المحافظين. سلحة لمصلحة استقرار الأوضاع، حتى إن مشاركاً في ندوة قانون الطفل قال بهدوء: «لا بد أن يخضع القانون للإيديولوجيا السائدة». لم يفصح عن مقصده، لكن الجميع فهم أن المقصود هو «الدين والأخلاق الريفية»، وهو يؤكّد أن «الختان عادة دينية»، وضرب الأبناء «موروث اجتماعي»، ولا بد من الحفاظ على موروثاتنا وألا نخضع لتأثيرات خارجية.
وكما خطفت المجموعة المسلّحة نقابة الصحافيين، خطف تحالف «الإخوان» و«الحزب الوطني» الفرصة في إصدار قانون، أو حتى مناقشته لترشيده، بما يسمح بإعادة النظر في تربية أطفال سيصبحون بعد سنوات قليلة جنود جيش من المقموعين، شعارهم هو الطاعة المطلقة والعمياء لصاحب السلطة، الأب في البيت والرئيس في البلد.