حيفا ــ فراس خطيبقبل ستين عاماً من اليوم، لم تعد «عروس الكرمل» عروساً. باتت سبيّة للعصابات والسياسات الصهيونية، التي حاولت على مر العقود الماضية تغيير ملامح المدينة. باتت حيفا وفلسطينيوها ضحايا حملات تهويد لا تنتهي، وإن كانت لم تنجح إلى اليوم في إلغاء ذكرى المكان وشهدائه
في مثل هذا اليوم قبل 60 عاماً، سقطت مدينة حيفا العربية بأيدي العصابات الصهيونية بعد قتال دام أسابيع. توقف نبضها العربي الثقافي والسياسي والتجاري والاقتصادي. هُجِّر سبعون ألفاً من أهلها واستشهد 150. لم يكن سقوطها مؤلماً فحسب، بل كان حدثاً مفصلياً في نكبة وقعت على شعب من حيث لا يدري.
أصبحت حيفا حكاية مكان لا ينتهي فيه الصراع الصامت. لا أحد يسلّم بالواقع. من يمر بين أروقتها اليوم، يواجه حقيقة مُرَّة. صارت مدينة ضخمة، هي الثالثة إسرائيلياً بعد القدس وتل أبيب. يسكنها 30 ألف فلسطيني فقط من بين 270 ألف يهودي. وملامحها العربية متّجهة نحو الزوال.
يعيش العرب في حيفا اليوم في أحياء تشبه الغيتوات، لا أفق لتوسعها أو تطويرها: وادي النسناس والحليصا وعباس وجزء من وادي الصليب العريق. أحياء كلها في الطرف السفلي للمدينة، موقعاً ومجازاً. هي ما بقي من حيفا التاريخية.
لكنَّ هذه الحقيقة الشاقة، لم تقتل أملاً لا يزال مختبئاً في زواياها. أمل لا يظهر بوضوح، لكنَّه موجود. ظهر أول من أمس في مسيرة نظمتها اللجنة الشعبية لإحياء ذكرى سقوط حيفا. جال شبانٌ وشيوخ في شوارعها رافعين صور أمجادها الماضية وأسماء شهدائها وأحيائها وشوارعها العربية. «هذا الشارع المسمّى بن غوريون سيظل اسمه شارع الكرمل إلى الأبد»، قال أحد المشاركين.

هكذا سقطت

شهدت حيفا قبل ثلاثة أسابيع من سقوطها معارك كثيرة ودامية، أهمّها معركة «موتسكين» في 17 آذار عام 1948، التي أسفرت عن استشهاد قائد حامية حيفا محمد حمد الحنيطي عندما كان في طريقه مع الذخيرة من لبنان إلى حيفا. كان الحنيطي قائداً شجاعاً ومقداماً، وكان لاستشهاده أثر في نفوس المقاومين. وساء الوضع الأمني العام، فسادت الفوضى وكثرت أعمال النهب والسلب. واضطرت أعدادٌ كبيرة من العائلات الفلسطينية، إلى مغادرة المدينة بحثاً عن ملاذ آمن، ريثما تهدأ الأحوال وتستقر.
كان جنود الانتداب البريطاني يدعمون الصهاينة بشكل غير مباشر. يقول المؤرخ جوني منصور، لـ«الأخبار»، «لقد قدَّم البريطانيون حيفا إلى اليهود على طبق من ذهب»، وأوضح أن «القتال احتدم في الأيام الثلاثة الأخيرة قبل السقوط، وتحديداً بين 19 و21 نيسان، حين انتشرت قيادة الهاغاناه في مواقع كثيرة من حيفا بالتنسيق مع القيادة العسكرية البريطانية المرابطة في المدينة. فاقتحموا عدداً من المنازل والبيوت وأخلوا من بقي فيها، ونهبوا كل ما وقعت عليه أيديهم». وأضاف «لم يكتفِ البريطانيون بهذا، وأسهموا في صد كل محاولات توفير مساعدات، وسدّوا منافذ حيفا الشرقية والغربية منعاً لوصول المساعدات والدعم العسكري والبشري، وكان هذا بمثابة جرعة للعصابات الصهيونية لتنقضّ على ما بقي من المقاومة العربية، وتهاجم الأحياء العربية الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليلة الواحد والعشرين من نيسان».
نفّذت خطة «المقص» (مسبراييم) المبرمجة مسبّقاً على يد قيادة الهاغاناة. ويوضح منصور «جرى التمهيد لهذا الهجوم بضرب أحياء المدينة العربية بالمدفعية من المرتفعات حيث الأحياء اليهودية. واستخدموا في هذا الهجوم كل أنواع الأسلحة التي توافرت بأيديهم بكثرة، منها الألغام وبراميل المتفجرات والقنابل الناسفة والقنابل الصوتية».
لا تزال الأماكن في حيفا شاهدة على العصر. من أبرز المعارك التي حدثت كانت في حي الهدارا، في «قصر الخوري». وأخرى في بيت النجادة في حيّ الحليصا. ولا يزال الإسرائيليون يضعون هناك أنصاباً تذكارية «إحياءً لجنود الجيش الذين سقطوا». وقد هدم الاحتلال قصر الخوري بعد قيام الدولة العبرية، وبنى مكانه عمارة تجارية اسمها «برج الأنبياء». ولا يزال بيت النجادة قائماً حتى هذا اليوم، وقد حوّل جزء من المبنى اليوم إلى كنيس يهودي.

... وتبدّلت حيفا

حيفا اليوم حال مألوفة من ممارسات التهويد، غالبية أسماء شوارعها تبدّلت. شارع الجبل صار «جادة تسيونوت (الصهيونية)»،، وشارع الكرمل صار «بن غوريون»، وشارع الناصرة صار «ديرخ بار يهودا»، وشارع «أحمد شوقي» صار «غوش عتصيون» وشارع صلاح الدين الأيّوبي صار «هجيبوريم» (اليهود الذين قاتلوا في بيت النجّادة). والقائمة غير نهائية.
امتلأت سفوح الكرمل بمناطق أطلقت عليها أسماء تيمّناً بآباء الدولة العبرية، منها تلة (مناحيم) بيغن وتلة غولدا (مائير). كل شيء بالعبرية. أعلام إسرائيلية في كل مكان، حتى وادي الصليب، أعرق الأحياء العربية، يهدم رويداً رويداً وتختفي معالمه. وبات مثل كومة حجارة بين العمارات الشاهقة الحكومية والمحاكم. فترى بيوتاً في ذلك المكان قتلتها «كريات همشلاة» (مقر المكاتب الحكومية). وأهل حيفا الأصليون ينتشرون في كل مكان، من لبنان حتى واشنطن.
كانت حيفا مدينة نابضة. خلافاً لما يحاول الإسرائيليون تصويره على أنها كانت نائية. ففي مذكّراته، كتب المناضل المرحوم بولس فرح: «حيفا لم تكن بالحجم الذي نشاهده اليوم. لقد كانت تدخل العربة إلى قلب المدينة عبر البوابة الشرقية وكانت مركزاً لتجارة الحبوب وتجارة الجملة عامة، ومن خلال البوابة إلى السوق التي كانت تنتشر على جانبي حوانيته مختلف البضائع، ومنه إلى فندق فكتوريا. وكان مركز الكباريهات في حيفا، والرقص الشعبي التقليدي، أو ما كان يُسمى «العوالم»، ومن الفندق في محاذاة سجن حيفا العتيق فساحة الجرينة والجامع الكبير وتتحلّق حوله الدكاكين الصغيرة. وندخل في السوق الأبيض لنخرج إلى ساحة الحناطير، أو ساحة الخمرة أو ما يسمّى الآن «ساحة باريس»، وكان سوق حيفا المركزي يمتدّ من ساحة الجرينة إلى ساحة الخمرة ويزدحم ليس بالناس والباعة فحسب، بل بالدوابّ، وعربات الأيدي، وباعة التمر الهندي، والحناطير وغيرها من وسائل المواصلات. وكان سائق العربة الذي كنا قد أمضينا معه أكثر من سبع ساعات من السفر من الناصرة إلى حيفا، ينهر الناس ويصرخ، وهو يعلو مركزه المتقدم من العربة، «رأسك، حيلك، ظهرك»، موصولة ببعض الشتائم التي كانت لا تصل إلى أصحابها بل إلى الركاب، وإليّ خاصّة، فقد كنت أجلس مباشرة إلى جانبه».


مهرجان تضامني مع عزمي بشارة

نظَّم حزب «التجمع الوطني الديموقراطي»، أول من أمس، اجتماعاً شعبياً حاشداً في قرية مجد الكروم، تحت شعار «التضامن والتصدي»، في ذكرى مرور عام على المؤامرة على رئيس الحزب عزمي بشارة، واحتجاجاً على الملاحقة السياسية لنشطاء الحزب من جهاز الأمن الإسرائيلي العام «الشاباك». ورأى رئيس لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل، شوقي خطيب، في كلمته، أن «قمع الحريات للجماهير العربية في إسرائيل ملازم للاضطهاد القومي الذي تعيشه منذ نكبة شعبنا الكبرى عام 48»، مضيفاً أن «عزمي بشارة ورفاقه وكل القوى الوطنية تخوض نضالاً شرعياً عادلاً».
أما رئيس القائمة العربية الموحدة ورئيس الحركة الإسلامية الجنوبية، الشيخ إبراهيم عبد الله، فرأى من جهته «أن حالة عزمي بشارة هي الحالة الثالثة بعد نكبة عام 1948، ونزوح عام 1967، حالة الفلسطيني المبعد قهراً والمنفي قسراً من بين شعبه». ووصف زاهي نجيدات، الناطق باسم الحركة الإسلامية الشمالية، المؤسسة الإسرائيلية بالظالمة. وقال: «طال ظلمها الإنسان والأرض والبنيان وتوقع ظلمها ليل نهار، والمطلوب من القوميين والإسلاميين، هو التثقيف على الهوية والانتماء والتعبئة المعنوية بمعاني الثبات والصمود».
وقال النائب جمال زحالقة إنَّ «عزمي بشارة رفض أن يقزم نفسه ويبقى عصفوراً أليفاً في القفص، ورفض احترام الحدود التي رسموها للعمل السياسي».
(الأخبار)