أرنست خوريقد يشعر المراقب للشأن التركي، هذه الأيّام، بأنّ رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بات متخصّصاً في فتح أبواب حملات المعارضة عليه؛ فهو يعاني أزمة سياسيّة مصيريّة تهدّد بإقفال حزبه ومنعه من مزاولة العمل السياسي. العلمانيّون المتشدّدون قرّروا تصفيته سياسيّاً وبكل الوسائل. العلاقة مع أوروبا ليست بأفضل حالاتها. لكن يبدو أنّه لا يكتفي بهذا القدر من أوجاع الرأس. كل فترة يفتح على نفسه باب جهنّم بملاحظة يرمي بها، أو بنصيحة يوجّهها إلى شعبه. وماذا يتمنّى معسكر أعدائه أفضل من أن يقحم أردوغان نفسه في تفاصيل حياتيّة اجتماعيّة لكي يهيّجوا الرأي العام ضدّه، من نافذة أنّه «يعمل على فرض عقيدة شموليّة على الطريقة الإسلاميّة» ليهندس تفاصيل يوميات الأتراك.
آخر شراراته كانت في الثامن من آذار الماضي، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، حين أصرّ على ضرورة أن تنجب كل امرأة 3 أطفال على الأقلّ! التساؤل حول حسن أم سوء نيّة الدعوة، تأتي في مرتبة ثانويّة، فالسياسات تُقاس في نتائجها لا بنيّاتها. المهمّ أنّ الرجل قدّم لخصومه على طبق من فضّة، مادّة خصبة ليشنّوا حملة مجّانية ضدّه. والمعسكر المعادي، قرّر هذه المرّة التصرّف بذكاء، إذ امتنعت أحزاب المعارضة عن خوض المعركة سياسيّاً، وفوّضت المهمّة إلى مؤسّسات المجتمع الأهلي، بعدما حاولت بعد أيّام من التصريح الآذاري لأردوغان، فعل ذلك، ولم تلق التعاطف الشعبي المطلوب. فبعد 8 آذار، صدرت بيانات وسُمعَت تصريحات «علمانيّة» وصفت «نصيحة» أردوغان بأنها تدخل في سياق إسلاميّة رئيس الوزراء، بمعنى التشجيع على الإنجاب من باب التحكّم بالحياة الشخصيّة للأفراد، وردّت الهدف من الإكثار في الإنجاب إلى أسباب دينيّة بمعنى التشجيع على زيادة عدد المسلمين.
وبعد مرور أكثر من شهر، بدأت الصفعات الارتداديّة تنهال على أردوغان على شكل ردود «إحصائيّة» على دعوته. وجميع الأرقام لم تصدر لا عن حزب، ولا عن عسكر، بل عن جمعيات ونقابات ومنظّمات أهلية. ردود انطلقت من حرفية الحجج التي انطلق منها أردوغان لينصح بزيادة عدد الولادات.
فهو الأب لأربعة أولاد، اعتمد على حجّة علميّة، فأتت الردود من الزاوية نفسها. قال «إذا استمرّت نسبة الولادات على ما هي اليوم (2.1 لكل عائلة)، فستكون تركيا في عام 2038 ذات مجتمع هرم، وهذا ما سيؤثّر سلباً على نسب النموّ الاقتصادي»، مستدلّاً على أمثلة أوروبيّة حيّة، حيث المعدّل العام للأعمار مرتفع، ما يفسّر التراجع الاقتصادي والركود الذي تعيشه.
لكن ماذا عن التكلفة الصحيّة والاجتماعيّة التي تستتبعها زيادة نسبة الولادات؟ الإجابة جاءت من عدد من الأطراف.
نائب مدير المؤسّسة التركيّة للصحّة وللتخطيط، نوركان موفتووغلو، ردّ بأنّ قرار الإنجاب من عدمه، هو خاصّ بالزوجين وليس لأردوغان إقحام نفسه بالموضوع. السبب واضح، فالقدرة على تلبية تكاليف الوليد الجديد هي التي يجب أن تحسم القرار. موفتووغلو كشف أنّ موقع تركيا متراجع جداً بالنسبة إلى الدول الأوروبية من حيث تخصيص جزء من موازنتها للتكاليف الصحيّة لمواطنيها. «في تركيا نسبة الضمان الصحّي لا تتجاوز 4.8 في المئة من الموازنة العامّة، بينما منظّمة الصحّة العالميّة تحدّد رقم 10 في المئة كحدّ أدنى».
من جهته، يشير رئيس «المؤسسة التركية للرعاية الصحية» هاكان ساتيروغلو إلى أنّ معدّل الوفيات من جراء الولادة في تركيا مرتفع جدّاً بسبب سوء التغذية وسوء الرعاية الصحيّة. كذلك هو معدّل وفيات الأمهات خلال وضعهنّ الذي يناهز 28 بالألف وهو رقم مرتفع جداً، بينما هي لا تزيد على 3 بالألف في اليونان المجاورة.
أمّا وضع القطاع التعليمي فهو سيّئ بدوره. حكومة أردوغان لم تخصّص له في عام 2006 سوى نسبة 9.5 في المئة من الموازنة العامة، بينما وصل في دول كالمكسيك إلى 22.6 في المئة!
أمّا عن زيادة المدخول التي يفترضها ارتفاع نسبة الولادات، فيقول المسؤول في اتحاد العمال العام، أنيس باغداديوغلو، إنّ كلفة عائلة مؤلّفة من 3 أطفال، لا تغطّيها المداخيل التي يجنيها الأتراك، «لذلك أتوقّع أنّ دعوة أردوغان إلى إنجاب 3 أطفال كحدّ أدنى لن تُلاقى بالترحيب من قبل الأزواج الذين يعيشون بالحدّ الأدنى للأجور».
هكذا فتحت دعوة أردوغان العيون على تقصير حكومته من الناحية الاجتماعية والصحيّة والتربويّة. تقصير إذا أُضيف إلى لائحة ما يسمّيه خصومه «خطايا» في السياسة، ستكون وجبة شهيّة على مأدبة إقصائه وحزبه عن الحكم.