أرنست خورييبدو أنّ الرسالة التي ابتغاها الصدر من خلال بيانه الأخير، لم تصل البتّة، بل كانت لها نتائج عكسيّة تمثّلت بالتفسيرات المتناقضة التي حمّلَها إيّاها الإعلام والساسة. فما الذي أراد الصدر إيصاله من خلال البيان؟
كان واضحاً المنسوب السياسي للرسالة في البيان. الرجل أراد تأكيد ما سبق أن أعلنه منذ أشهر، وهو أنه يتابع دروساً دينية معمّقة ستطول لسنوات لينال صفة «المجتهد»، أو لقب «آية الله». ولهاتين المرتبتين الدينيّتين أهمية قصوى في المنظومتين الاجتماعية والسياسية لدى شيعة العراق؛ فبمجرّد أن يصبح رجل الدين «مجتهداً»، يصبح مرجعاً، ويكتسب قيمة مضافة سياسيّاً.
وفي وضع الصدر، قد تكون هذه الشهادة، جواز سفر يحرّره ولو جزئيّاً من سلطة المرجع الأعلى، علي السيستاني. فالزعامة السياسيّة في هذه الحالة، تصبح مستندة إلى خلفيّة دينيّة، تحوم حولها هالة من القداسة. والسيّد مقتدى، ربط «انعزاله» عن العمل المباشر مع الناس، بثلاثة أسباب: متابعة تحصيل الدروس الدينيّة (نوّاب الكتلة الصدريّة قالوا إنها ستكون بين النجف وإيران ولبنان)، واستمرار وجود الاحتلال، وتوسّع حلقة المنشقّين عن تيّاره. لا جديد في الأسباب الثلاثة. سبق أن اعترف الصدر مراراً بوجود «عدم منصاعين» له في السياسة. وهؤلاء ينقسمون إلى فئتين: أولاهما ممّن رفض ولا يزال قرار تجميد النشاطات العسكريّة لـ «جيش المهدي»، ويصرّ على استكمال المقاومة المسلّحة ضدّ الاحتلال، والانتقام من المتعاملين معه. «مقاومة» توسّع إطارها، وباتت عبارة عن تكفير طائفي استتبع تحوّل فرق كبيرة من «جيش المهدي» إلى «فرق موت» طائفيّة، تردّ على المنهج التكفيري السنّي الذي يعتمده «القاعدة»، بسلوك شبيه مقابل.
والفئة الثانية جنح أصحابها صوب المزيد من التطبيع مع الاحتلال وتخلّوا حتّى عمّا يصرّ مقتدى منذ معركة النجف عام 2004، على تسميته بأنّه يجب أن يكون «مقاومة سلميّة» للاحتلال.
اعتراف الصدر، ونقده الذاتي بالعجز عن «تحرير العراق وجعل مجتمعها إسلاميّاً مؤمناً مخلصاً... وعدم انصياع الكثير وانحرافهم عن جادة الصواب»، دفعه إلى «الانعزال عنهم احتجاجاً على ذلك وإفراغاً لذمّتي أمام الله».
لكن لماذا اختار الصدر تجديد تأكيده على الثوابت المعروفة بعد أيّام من تجديد تجميد «جيش المهدي»؟ قد يكون التوقيت «استباقيّاً» من ناحية التمهيد لافتتاح القوّات العراقيّة، تدعمها القوّات الأميركية (أو بالعكس)، حملة اعتقالات أو تصفيات لعدد من المسؤولين المناطقيّين المحسوبين (سابقاً) على التيار الصدري وجيشه «المهدي». ما حصل في اليومين الماضيين يرجّح هذا الاحتمال. فالقوّات الأميركيّة أغلقت صباح أمس، معظم منافذ مدينة الصدر، في وقت يجري العمل فيه على تسييج المدينة بجدار اسمنتي. الحملة باتت منذ فترة شبه روتينية.
من غير المعروف بعد ما إذا كانت التوقيفات الأخيرة تستهدف مقرّبين من الصدر أو ممّن سمّاهم «المنحرفين». فهؤلاء يكثر عددهم في الجنوب، البصرة خصوصاً. بينما معروف أنّ الضاحية الشرقيّة لبغداد لا تزال حصناً منيعاً لأنصار الصدر. على جميع الأحوال، أحداث عديدة وقعت أخيراً تشير إلى إيجابيّة يبديها جيش الاحتلال والقوّات العراقية تجاه «جماعة» الصدر، «مكافأة» لقراره تمديد الهدنة معهم.
تفسير وسائل الإعلام لقرار الصدر وتحويل «الانعزال»إلى «الاعتزال» استوجب توزيع مساعدي الصدر، الشيخ صلاح العبيدي وبهاء الأعرجي ولواء سميسم، على شاشات الفضائيات العربيّة ليوضحوا أنّ الصدر سيبقى متابعاً لتفاصيل السياسة شخصيّاً أو من خلال «مقرّبين أوكلتهم نيابةً عنّي لإدارة أمور المجتمع وخدمته» على حدّ تعبير الصدر نفسه. أمّا الصحف العراقيّة الرسميّة (الصباح) أو المقرّبة جدّاً من السلطة (المدى)، ففضّلت التصرّف إزاء الخبر كأنّه لم يكن، ربّما تفادياً لاستفزاز في غير محلّه لأنصار التيّار. استفزاز سيكون حتميّاً لأنّ، البيان أثلج قلب المنافس الأبرز للصدر على الساحة الشيعيّة، السيد عبد العزيز الحكيم ومجلسه الإسلامي الأعلى، على بعد أشهر من انتخاب مجالس المحافظات غير المنتمية إلى إقليم.