strong>أرنست خورييبدو أنّ زيارة الرئيس العراقي جلال الطالباني إلى أنقرة يومي الجمعة والسبت الماضيين، جاءت صغيرة من حيث البروتوكول والحفاوة في الاستقبال، لكن كبيرة بحجمها. ومن المتوقَّع أن تحتلّ تداعياتها صدارة الأخبار، وخصوصاً على خطّ نسج علاقات رسميّة علنيّة بين أنقرة وأربيل.
ومن المعروف أنّ العلاقات بين أكراد العراق وحكّام تركيا قديمة. تخلّلتها سنوات من المعارك والحروب، وأشهرٌ من التحالفات والاتفاقيّات العلنيّة والسريّة. وحتّى حين نال إقليم كردستان صفة المحميّة ذات الحكم الذاتي نتيجة قرار الأمم المتحدة عام 1991 وتطوّر وضعه ليصبح شبه دولة مستقلّة منذ 2003، بقيت المصالح التجاريّة تفرض على الطرفين اعترافاً ضمنيّاً، لم يرتقِ إلى مصاف الاعتراف العلني بحكومة أربيل. اعتراف لم يحصل لأنه من المواضيع التي لا تزال في خانة الممنوعات في العقل التركي. فبالنسبة إلى هذا العقل، اعتراف بفدراليّة للأكراد في العراق سيكون له مفعول الدومينو، وسيجرّ تدريجيّاً إعادة الفورة الانفصاليّة والاستقلاليّة لدى أكراد تركيا.
الاقتراحات التي قدّمها الطالباني لعبد الله غول ورجب طيب أردوغان للالتفاف على «خطر» حزب العمّال الكردستاني كانت عمليّة؛ اعترفوا بحكومة إقليمنا الكردي العراقي، لأنّ هذا سيؤدّي إلى طمأنينة متبادلة، وسيؤدّي إلى تنسيق لاحتواء سلاح حزب عبد الله أوجلان بدل اتّكالكم على منطق الحسم العسكري الذي لم ولن يجدي، والتاريخ خير برهان.
في المقابل، كاد الطالباني أن يقول ما حرفيّته: اعتراف سياسي من قبلكم، سيفتح لكم باباً واسعاً أمام ثروات إقليمنا في السياحة والترانزيت والتجارة والنفط. وسترون كيف سيجد مسعود البرزاني وجماعته، ومن خلفهم الشعب الكردي العراقي، أنّ من مصلحتهم التضييق على أشقائهم في حزب العمّال، لأنّ حرمانهم خيرات تركيا يضرّ بهم كثيراً. عندها سيعرف هؤلاء أنّ «المغامرات» العسكريّة للحزب الكردي على أراضيهم باتت تمثِّل عبئاً ثقيلاً عليهم.
ولم يمضِ يومان على انتهاء الزيارة حتّى بدأ ظهور الإشارات عن قرب مرحلة التطبيع الرسمي بين أنقرة وأربيل، وهو ما تجلّى بوضوح في الصحف التركيّة. صحيفة «حرييت» نقلت عن تلفزيون حزب الطالباني، «الاتحاد الوطني الكردستاني»، أنّ وفداً تركيّاً رفيع المستوى سيجتمع مع رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان نيجيرفان البرزاني، ابن شقيق مسعود البرزاني، في بغداد خلال الأيّام القليلة المقبلة، وذلك بعد انتهاء مؤتمر البرلمانيّين العرب الذي يبدأ اليوم وينتهي بعد غد في أربيل. ومن شبه المرجَّح أن يترأس مراد أوزشيليك، الوفد التركي. فالرجل عيّنته الحكومة التركيّة أوّل من أمس، مبعوثاً دائماً لها لدى بغداد (بصلاحيّات سفير).
كما رأت صحيفة «زمان» أنّ الأزمة التي كانت تعانيها سلطات تركيا بعدم وجود محاور لها في بغداد، حُلَّت، والمتحدّث بات اسمه جلال الطالباني. وتعدّدت تقديرات المحلّلين والسياسيّين الأتراك تجاه مرحلة ما بعد زيارة الطالباني إلى أنقرة. فرغم أن سرحات إركمن، الباحث في المركز الأوراسي للدراسات الاستراتيجيّة يرى أنّ ما سمّاها الطالباني وغول وأردوغان «مرحلة جديدة من العلاقات الاستراتيجيّة» بين أنقرة وبغداد فُتحَت مع الطالباني، إلا أنّه استبعد أن يرى يوماً ما مسعود البرزاني في أنقرة. غير أنّ إجماعاً يسود في الأوساط الصحافيّة التركيّة على حتميّة لقاءات قريبة مقبلة ستُعقَد بين وفود تركيّة ومسؤولين أكراد «مهمّين جداً». وإذا لم يكن البرزاني شخصياً في مقدّمة هؤلاء الأكراد، فسيكون من بين هؤلاء من ينوب عنه. وبين الأكراد العراقيّين من جهة، وحكّام أنقرة، صلة وصل مهمّة يجسّدها أزاد جندياني، وهو معاون الطالباني، ورافقه في زيارته الأخيرة، ومعروف بعلاقاته الجيّدة مع المسؤولين الأتراك.
وفي السياق، يشير محلّل السياسة الخارجيّة، أوزديم صنبرك، إلى أنّ الأمور تسير نحو «تطبيع بين تركيا والعراق ومع أكراد هذا البلد أيضاً». ويلفت إلى أنّ زيارة الطالباني يجب أن تُستَتبَع بحركة ناشطة للاستثمارات والتبادل التجاري والصلات الدبلوماسيّة بين أكراد العراق وتركيا، «فبهذه الطريقة وحدها تُحلّ قضيّة الحرب على الإرهاب (العمّال الكردستاني)».
غير أنّ الطالباني تعرّض لحملة قويّة من أكراد تركيا على خلفيّة زيارته إلى أنقرة. وتولّت النائبة التركيّة عن حزب «المجتمع الديموقراطي»، برفين بولدان، توجيه الانتقادات الحادّة له. وخلال مؤتمر لحزبها، توجّهت بكلامها للرئيس العراقي بالقول: «لو كان لديك ذرّة من الكبرياء الكرديّة لما جئت إلى هنا ونسّقت مع السلطات التركيّة».