القاهرة ـ وائل عبد الفتاح«يحكم مصر ثلاثة بطاركة». يعلِّق المتحدّث على هجوم مرشد «الإخوان المسلمين»، محمد مهدي عاكف، على اهتمام الرئيس حسني مبارك بأزمة حارس مرمى منتخب كرة القدم عصام الحضري. عاكف وجّه رسالة مباشرة: «يا سيادة الرئيس، آن لنا ولهذه الأمة أن تحمل الأمانة التي أمرنا الله بها».
استغلّ المرشد الصدمة التي اعترت الناس نتيجة اهتمام الرئيس بإنهاء أزمة احتراف الحضري، وإعطاء توجيهاته لحلّ الأزمة والكشف عن اتصال هاتفي بين علاء، النجل الأكبر لمبارك والحضري، ما أدّى إلى عودته.
الاتصال تحوّل إلى نميمة «سياسية» و«غير رياضية»، ذكّرت بمشاهد مماثلة لعدي صدام حسين والساعدي القذافي. فغرام «الأنجال» بملاعب كرة القدم، أثار تحليلات عن صورة الديكتاتور المسيطر العاشق للتحكم في مشاعر الجماهير، والمفتون بنجوم الملعب. افتتان يدفعه إلى الاقتراب منهم وتحويلهم إلى أدوات بين يديه.
فغالباً ما يستبدل الديكتاتور الصغير الإعجاب بالامتلاك. يجرّب مهاراته الرياضية. ولأن الصغير ينتظر دوره في الحكم، يجلس على مقاعد الاحتياطي، لذا يمكن القول إنه يجد في المستطيل الأخضر غايته. هكذا كان الرجل الثاني في عصر جمال عبد الناصر، المشير عبد الحكيم عامر، يستبدّ في السياسة. فهو قرين الديكتاتور السياسي. يرأس اتحاد كرة القدم، ويتحكّم في نتائج المباريات. يطارد كل من يعادي فريقه المفضّل (الزمالك). وكان يحلو للمعارضة القول إن عبد الناصر يحب «الأهلي»، بينما يفضل منافسه على السلطة «الزمالك».
المعارضة أحبت «الزمالك». في المقابل، ظلّ «الأهلي» نادي الحكومة. ومع ظهور التعددية السياسية، بقيت الأوضاع على حالها، مع إضافة فريق «الإسماعيلي» (أقوى الأندية المنافسة للقطبين التقليديين)، لتتماثل التيارات السياسية الجديدة مع المنافس البعيد عن المتنافسين العجوزين.
اهتمام مبارك بالحضري يقارب إعلاناً متجدّداً عن بطريركية النظام؛ فالرئيس الأب يعرف أكثر، يتدخّل في التفاصيل ويحلّ مشاكل المجتهدين. كما ترعى العائلة الحاكمة الأبناء وتصادقهم، فهم أبناء العائلة الكبيرة.
واللافت أنه حين أراد عاكف انتقاد الرئيس، لم يخرج عن النظام البطريركي. لم يتحدّث عن احترام المؤسسات أو دور الرئيس. طالب فقط بمساواة الآخرين مع الحضري. قال، موجهاً كلامه إلى مبارك الأب: «أعلم أنك تعلم كل كبيرة وصغيرة في البلد. فكما عرفت بقضية شاب سافر إلى سويسرا (مشيراً إلى هروب الحضري)، وتدخلت لأجله، آن لك أن تراجع مواقف أخرى، ونحن وراءك ومعك. وستعلم أن هذا الشعب لديه من الرجولة والمروءة ما يقف به مع كل إنسان فاضل يحب شعبه، لأن الفاسدين انتشروا في البلاد، وكثر الاستبداد، وساوموا الناس على أرزاقهم ومقدراتهم».
عاكف لم يعترض على مبارك. فهو الآخر بطريرك يهتمّ برعاياه. هو «رمز» أو «نموذج قديم» للمعارضة السرية. يدير جهازاً حديثاً نجح في اختراق سيطرة الحزب الوطني على الانتخابات بمرونة سياسية تستفيد من احتجاج الناس على استمرار حكم مصر بمنتخب الفساد. هو أيضاً رمز لبناء مستقر داخل جماعة «الإخوان المسلمين»، ويواجه اليوم تيار الـ«نيو لوك»، الذي تقوده شخصيات مثل عبد المنعم أبو الفتوح، تسانده من بعيد عناصر شابة تحترف التدوين على شبكة الإنترنت، وتقدّم الوجه الجديد للجماعة كتنظيم حديث، تشغله تساؤلات عن الدولة المدنية وقبول الآخر.
هؤلاء أبناء مشاغبون يناوشون البطريرك من بعيد، إذ لا يزال بناء الجماعة قديماً. تنظيم دعاة دينيّين يخلطون بين الدين والسياسة. وعاكف ليس زعيماً لتنظيم سياسي مدني فحسب، بل مرشد، أي يتمتّع بدرجة معرفية أكبر من كل الأعضاء، وما عليهم إلّا الطاعة، وخصوصاً أنه لا يزال يتعامل بنفسية مدرس الفتوّة، الاسم القديم لمدرس الرياضة الذي يتخيّل أنه يمكن أن يربي الناس تربية رشيدة، ويملك وحده صورة الإنسان المثالي. وقد قال مرة في حوار صحافي إنه «لا يُجبَر أحد على الصلاة أو الامتناع عن التدخين. لكن من يدخل الجماعة، سيجد الجميع يصلّي ولا يدخّن، وسيرى أن عليه الرضوخ للجماعة».
المرشد بطريرك في المعارضة. يتصور أن لدى تنظيمه دفتر شروط للإنسان الصالح. يراهنون على قهر الجماعة التي يتحدثون باسمها. النظام البطريركي ذاته الذي يتحوّل فيه الفرد إلى «ابن صالح»، يفترض ألّا يخرج عن الطاعة، فيحصل في المقابل على الحماية والرعاية.
هي الأبوية نفسها. هذه ملاحظة أخرى عن «تقسيم السلطة بين الرئيس والمرشد. للرئيس السلطة السياسية، وللمرشد السلطة الاجتماعية». هذا الرأي الذي قيل على هامش الحديث عن حكم البطاركة، مثير للتأمّل باقتسام البطريرك الكبير لسلطاته، وهو ما حدث معنوياً وبشكل غير مرئي مع مرشد «الإخوان»، «الذين غيروا مزاج المجتمع في الثلاثين سنة الأخيرة»، بحسب امرأة أربعينية أكدت كلامها باسترجاع صور النساء في مصر خلال الستينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، كأنها تشير إلى «ثورة عكسية غير معلنة نقلت نموذج الخليج إلى مصر».
تقسيم السلطة أوضح في حالة البابا شنودة الذي قال هذا الأسبوع: «لا نعترف إلّا بالشريعة»، وذلك تعليقاً على حكم محكمة أجازت الزواج الثاني لرجل قبطي من بين ٨٠ ألف آخرين، يرفض البابا منحهم ترخيص الزواج أو الطلاق.
والبابا هو الوحيد الذي يحمل لقب بطريرك رسمياً، ولا يشغله الآن سوى السؤال التالي: كيف حصل عاطف كيرلس على رخصة «الزواج الثاني»؟ هو أصبح دولة داخل الدولة. يرفض تنفيذ أحكام قضائية، ويعلن ذلك أمام جماهيره التي تستمتع بتحكّمه في الزواج والطلاق.
يشعر المسلم بأنه أقوى وسط مسلمين يرون أنهم الأحق ضمن الفرص القليلة المتاحة للحياة، بينما يبحث المسيحي عن مراكز المسيحيين ليحتمي من شعورٍ يفيد بأنه لا وجود لفرصة له، وعليه أن يدفع جزية من وجهة نظر البعض. وهنا لا بد أن ينظر إلى فرصة في عالم مسيحي أو يحتمي بجدران كنيسة ينتظره خلفها كهنة عاشقون للتسلّط والزعامة والشهرة.
هكذا بدأت الدولة بمفهومها المدني تتآكل. والكلّ يبحث عن جماعة صغيرة أو بطريرك يشعرها بالقوة في مواجهة حكم البطريرك الكبير. حتى في الزواج، اختفت عادة عقد القران في البيوت، وأصبحت في المساجد، في تقليد غير واعٍ للإجراءات المسيحية بالزواج داخل الكنيسة.