حسام كنفانييمكن وصف بيان السلطة الفلسطينية لإدانة الاغتيالات الأخيرة في الضفة الغربية بأنه صادم للوهلة الأولى، ولا سيما أنه استرجع تعابير كانت غائبة عن قاموس الرئاسة الفلسطينية خلال الأشهر القليلة الماضية، وتحديداً منذ الحسم العسكري في قطاع غزة، واستفراد الرئيس محمود عباس ورئيس حكومته سلام فياض بسلطة التفاوض مع الاحتلال.
استفراد ابتدع عباس وفياض خلاله شتّى الوسائل لإرضاء تل أبيب والإدارة الأميركية. الحملة على المقاومة وسلاحها، تحت مسمى مكافحة «السلاح غير الشرعي»، كانت أمضى الوسائل التي اعتمدتها حكومة تسيير الأعمال لتطبيق ما خصها من البند الأوّل في خطة «خريطة الطريق». وفيّاض كان إلى الأمس القريب يصرّ على «تفكيك الفصائل الفلسطينية لبسط سلطة الدولة».
بين الأمس واليوم ما الذي تغيّر؟ وما هي حوافز صدور بيان الرئاسة الفلسطينية، الذي يعلن بالحرف أن «الشعب الفلسطيني سيواصل المقاومة حتى دحر الاحتلال»؟ أليست هي المقاومة نفسها التي تساءل أكثر من مرة عن جدواها واستغرب تسمية «العمليات الانتحارية» وإطلاق الصواريخ بأنها مقاومة.
غايتان قد تعطيان تفسيراً لهذه اللهجة في البيان الرئاسي. أولاهما أن أبو مازن، المراقب بعين ريب لسير أمور التهدئة في قطاع غزة وتعرقل مفاوضات السلام في الضفة، كان لا بد له من اللجوء إلى تكتيك بديل يلفت إليه الأنظار، ولا سيما أن «سلميته» لم تجلب إلى اليوم إلا المزيد من التهميش للسلطة و«خيارها الاستراتيجي»، فيما صواريخ «حماس» جلبت اهتماماً أميركياً ـ عربياً بالحركة الإسلامية قد يمنحها مشروعية إضافية في المستقبل.
عباس يعلم أيضاً أن أصواتاً في الحكومة الإسرائيلية، يتزعمها وزير الدفاع إيهود باراك، تسعى جاهدة إلى عرقلة جهود التفاوض. والولايات المتحدة ستبقى عاجزة في أيامها الأخيرة عن فرض تغييرات في السلوك الإسرائيلي. وحتى إيهود أولمرت، المتمسّك بباراك لإنقاذ ائتلافه الحكومي، لن يكون بوسعه كبح جماح وزير دفاعه المنطلق استيطاناً واغتيالاً.
وفي ظل فشل النهج السلمي، لا بد لعباس من ورقة ضغط يلوّح بها في وجه الحكومة العبرية. والمقاومة قد تكون هذه الورقة في ظل المخاوف الإسرائيلية من انتفاضة ثالثة في الضفة. والبيان قد يكون رسالة من عباس مفادها أنه لا يزال يملك مفاتيح على الأرض يمكن استخدامها.
هذا التفسير يمكن إدراجه من باب «حسن الظن» بالرئيس الفلسطيني. إلا أن تفسيراً آخر يربط عملية الاغتيال في بيت لحم بالتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، ولا سيما أن المدينة هي من المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الأمنية لعباس وفيّاض. ولا يمكن الرجلين أن ينفيا أن طلباً إسرائيلياً وصل إلى مقرّ المقاطعة لاعتقال الشهيدين محمد شحادة وأحمد البلبول، وفق مصادر فلسطينية موثوقة، قالت أيضاً إن السلطة رفضت الاعتقال «لعدم إثارة نقمة فلسطينية على حكومة فياض».
الاغتيال أو الاعتقال بأيدٍ إسرائيلية قد يكون أخف وطأة من تنفيذ السلطة مثل هذه المهمة. وما لهجة البيان «العنيفة» إلا للتغطية على دور ما لأمن السلطة في جريمة الاغتيال، الذي قد يكون «فاجأ» عباس فعلاً، ولا سيما أن الغاية من العملية، بحسب مصادر إسرائيلية، كان اعتقال المقاومين «إلا أن وجود أسلحة في سيارتهم دفع الجنود إلى إطلاق النار».
بين «حسن الظن» و«سوء الظن»، يبقى على عباس نفسه، عبر مواقفه في المستقبل، تحديد التوجه الحقيقي لبيان الرئاسة.