غيتوات عربية محاصرة بالمهاجرين... وإجراءات لتهميش من بقي من الفلسطينيينلا حاجة للعودة إلى تاريخ مدينة الرملة لفهم الحقيقة المشوهة. يكفي ذلك النصب التذكاري الضخم المتمترس عند مدخلها «تخليداً لذكرى جنود الجيش الإسرائيلي الذين سقطوا في تحرير الرملة»
الرملة ـ فراس خطيب

لا يستغرق القادم إلى مدينة الرملة، سوى نظرة خاطفة عبر زجاج المركبة، لإدراك شرِّ الحاضر الثقيل الذي يحياه الفلسطينيون هناك: غيتوات بائسة ومحاصرة، عراك على ما بقي من لغةٍ ومكان، وعيش يراوح بين القريب من الطبيعي والمأساوي، سوق جريمة وأدوات شبه معدومة لمواجهة الصراع. مدينة الرملة، صاحبة الأمجاد التاريخية العريضة، باتت اليوم، ببساطة، «مدينة في مواجهة كل شيء».
هذه المدينة، حتى في الشق العبري منها، بعيدة عن أن تكون مدينة أحلام، تكتسب حضورها المدائني من موقعها إلى جانب تل أبيب، وتبني حاضرها العبري على تغييب تاريخ سكانها الأصليين. هي قائمة على أنقاض الرملة التاريخية، التي بناها الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، وعزّزت مكانتها في الشام العربية، وكانت محطة واصلة بين يافا والقدس في عهد فلسطين التاريخية. لكنَّها اليوم أبعد ما تكون عن تاريخها، يسكنها قرابة سبعين ألف نسمة، بينهم 15 ألفاً من العرب، وتحولت من محطة في عهد فلسطين إلى «مدينة إلى جانب الطريق»، وخليط حضارات لا تختلط.
الاسم: غيتو
يستطيع القريب من البلدة القديمة أن يسترق النظر إلى أفقها. في الأفق مئذنة، يظهر طرفها بصعوبة نتيجة العمار الشامخ المحيط بالبلدة. «يخفون المئذنة بالمباني لإخفاء المعالم»، تقول المهندسة بثينة ضبيط، الناشطة في الحركة الشعبية لمكافحة الهدم.
العرب في المدينة مُقسَّمون إلى ما يشبه أربعة أحياء: حي غال حكال، المنقسم بشارع سريع، وحي الجواريش المحاط بجدار عازل يفصله عن الحي اليهودي، وحي المحطة والبلدة القديمة.
لا حاجة لوصف البلدة القديمة بـ «الغيتو»، لأنَّ هذا هو اسمها المتداول أصلاً. السوق فيها بارد، ملامحه العربية تفرض حضورها بصعوبة؛ عمار أثري، وزقاقات قديمة مستقيمة تقود كلها إلى الوسط، حيث يقع حمام الوزير، الذي امتلكته عائلة الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، قبل احتلال المدينة.
خارج البلدة القديمة معالم كثيرة وحجارة شاهدة: مقام النبي صالح والمسجد الأبيض، وغيرها الكثير. وعلى أرضها حوصر الفلسطينيون أثناء النكبة. هُجّر أهلها بغالبيتهم. وكما في باقي المدن المختلطة، استولت الشركة الحكومية على العقارات، وبات أصحاب الملك الأصليون «مستأجرين محميين» ممنوعين من الترميم والتوسيع والتجميل والتحصين، «حتى مدخل البيت نُمنَع من توسيعه أو تغييره»، يقول أحد سكان البلدة. من يخالف القانون يعاقب. والعقاب قد يؤدي إلى الإخلاء، وإعلان بيع البيت في المزاد العلني... لليهود طبعاً.
لا مكان للتوسع، لا بنى تحتية ملائمة، ولا خدمات يمكن ذكرها في دولة لا تنسب نفسها إلى الشرق الأوسط وتحتسب كيانها أوروبياً.
تفتقر الأحياء العربية إلى حيِّز، ولو قليل للبناء والسكان. قبل 15 عاماً تقريباً، تمّت المصادقة على خرائط الهيكلية للأحياء العربية التي وضعت حاجزاً أمام كل من يريد ترخيص بيته. وقالت المهندسة ضبيط إنه «منذ عام 1948، لم يُصدَر سوى 200 رخصة بناء للأحياء العربية على أساس مشروع لإخلاء المواطنين العرب من حي الغيتو، وفي مقابل هذا هدمت البيوت العربية القديمة، حيث يعيش اليوم أكثر من 70 في المئة من فلسطينيي الرملة، بشكل خارج عن القانون».
الحرب على البلدة القديمة مستمرة دائماً. بحسب المعطيات، بقي في مدينة الرملة 3500 بيت تابع للفلسطينيين بعد النكبة. ودارت حرب حقيقية دائماً على البلدة القديمة، لكن أكثر من 80 في المئة من البيوت هدمتstrong>يوئيل لافي
على مقربة من إحدى مكتبات الأفلام في البلدة القديمة، وقف شابان إلى جانب سيارة نقل. كان أحدهما يحمل ما يقارب عشرة أقراص «دي في دي» بيد واحدة. سحنته سمراء، قوي البنية. حين تسأله لا يجيب، يحدق فيك بنظرة تساؤل، ليتأكد «ممّا إذا كنت منَّا (عربي) أو لا»، وبعد جهد يقبل الحديث.
يقول إنَّ الأقراص سيبعث بها إلى صديق في السجن. اعتقل جنائياً لقيامه بعملية سطو. ومن بعدها «يفتح قلبه» عن «البلد التعبانة» حيث «لا يجد الشبان ما يفعلونه فيتجهون إلى طرق لا تحمد عقباها»، السطو مثلاً.
إلى جانبه كان رفيقه متكئاً إلى سيارة النقل، لا يتحدث، لكنه قال جملة: «اكتب أن رئيس البلدية هو العنصري الكبير، لا يريد العرب هنا، اكتب أنه المسؤول هذا الحقير». ويمضي الاثنان، حين لا ينتهي الحديث.
رئيس بلدية الرملة يدعى يوئيل لافي. يتمتع بشعبية لا تضاهى بين اليهود، حتى إنه ليس بحاجة إلى أصوات العرب ليكون «معتدلاً». أهالي الرمله يرونه منفذاً للمخطط الصهيوني، وقائداً لسياسة عنصرية تجاه العرب. لافي يردّ بشراسة على كل مبادرة «لها رائحة عربية». قبل شهور، طالب السكان بتغيير اسم الشوارع العبرية بأسماء عربية، ما قاده إلى تصريحات عبر الإذاعات ووسائل الإعلام العربية والعبرية: «من لا يعجبه فليرحل من هنا».
في إحدى «إشراقات» لافي، قال إنه سيعمل على تغيير اسم الرملة، لأنه «لا يعني شيئاً لـ12 ألف مهاجر من دول الاتحاد السوفياتي السابق. كما لا يعني شيئاً لخمسة آلاف مهاجر من إثيوبيا. وهناك جمهور كبير من السكان اليهود الأشكناز الذين لا يعني اسم الرملة شيئاً بالنسبة إليهم». الضفة أيضاً
في إحدى زوايا البلدة القديمة، كان عشرة شبان جالسين يتبادلون أطراف الحديث بلهجةٍ لا تشبه اللهجة الرملاوية. هم بالأصل عمال فلسطينيون يتسللون من الضفة الغربية ويسكنون في مدينة الرملة. ظاهرة اعتيادية في المكان. منهم من يعيش في بيوت مهجورة في عز البرد. يخرجون في الصباح إلى إحدى ساحات المدينة، حتى يأتي من هو بحاجة إلى عمال. منهم من يجلس طوال النهار لا يجد عملاً. الشرطة تقلقهم وتبحث عنهم دائماً: «أحياناً نجلس طوال النهار، ولا أحد يأخذنا الى العمل، مجرد فراغ».
الشبان الفلسطينيون هم جزء من المشهد. يخرجون البطاقات «البرتقالية الضفاوية» لإثبات أنهم ليسوا من العملاء الذين أسكنتهم السلطات الإسرائيلية في المدينة والقرى العربية. وهذه أيضاً قضية. بالنسبة إلى الشبان «التعرض لخطر التسلل، أفضل بكثير من أن تكون عميلاً» على حد قول أحدهم. الرملة بالنسبة إليهم أيضاً مجد مضى ويمضي.
سار أحد الشبان بسرية تامة، رافضاً الكشف عن هويته، إلى مكان ضيق بين زقاقات البلدة القديمة. طلب عدم تصويره أو ذكر اسمه أو شكله. في نهاية المطاف وصل إلى حاجز حديدي، ومن بعدها ساحة مظلمة تملأها المهملات. عليك أن تتسلق أعلى السور للوصول إلى مبنى مخفي، يضربه الهواء من كل صوب. أخشاب سوداء محروقة ومستنقع ماء صغير ملوث ورائحة رطوبة تفرزها الحجارة القديمة الآيلة للسقوط. قال الشاب: «في هذا المكان ننام».
يحاول العمال الذين لا يعيشون على الحد الأدنى من الراتب، أن يخلقوا من هذا المكان ما يشبه البيت. هم لا يكثرون الحديث عن ظروف العيش، يكتفون بالقول إنها «لا إنسانية».
حتى هذه الشروط المتواضعة بخطر. قبل يوم واحد من الزيارة إلى هناك، اقتحمت قوات الشرطة المكان، هرب الشبان منه، فأحرقت كل حاجياتهم.
ضوء في آخر النهار
النكبة لا تزال مستمرة. هي استمرار لما كان في عام 1948. لا أحد ينسى المشتتين في مخيمات اللجوء في الأردن والضفة. تحاول بعض الأطر جاهدة إحياء ذكرى القضية. أهل الرملة يجيدون الابتسامة في نهاية الحديث والنهار. يشدّد جزء منهم على أن «هذا لا يعني أننا يائسون، نحن نحب الرملة، نفخر بها ونريد البقاء هنا أيضاً. نحن هنا من أجل العمل، نريد إنقاذ ما بقي وبناء ما يأتي. نحن نحافظ على لغتنا وقضيتنا وبلدتنا، ونفتخر بكوننا صامدين. نحن ببساطة، نعشق كل ذرة رمل في الرملة».


المحطةأهالي الرملة العرب ليسوا وحدة واحدة. مقسمون على أحياء متباعدة. أسكنت السلطات بينهم عملاء تعاونوا مع الاحتلال وانتقلوا من غزة والضفة. سوق جريمة وإهمال ويأس أمام الحاضر. في الطريق المؤدية من الرملة إلى اللد، وعلى امتداد الشارع السريع جنوباً، يقع حي المحطة. لن ينتبه إليه أحد. بضعة بيوت تحت جسر. حي محاصر فعلياً وسياسياً. الدخول إليه أشبه بمخاطرة سير. طريق سريع وجسر ومن تحتهما بيوت آيلة للسقوط. أولاد الحي يلعبون في ساحة ترابية، ويتنافسون على الصعود إلى الجسر الخطير. فيما يلعب القسم الثاني على مقربة من الطريق السريع. كانوا فرحين للغاية، يتراكضون من وراء كاميرا الغريب. يريدون صورة وهم صورة، يجتمعون من أجلها ويركضون خلف الزائرين. يسأل واحد منهم: «ماذا تريد منّا؟ قال لي والدي إنَّكم تأتون دائماً وتصورون... ماذا تفعلون بالصور؟».
سؤال يؤرق البعض، سنوات والصور تخرج من هذا المكان، لكن لا شيء تغير، سوى شفقة ترتسم على ملامح البعض. لا مواصلات ولا رخص بناء، ولا خدمات بلدية أو حكومية. لا كهرباء ولا ماء. مجرد أناس يعيشون لأنَّ العيش سنّة الحياة لا أكثر. عندما سُئل رئيس البلدية عن الحل لهذا الحي، قال للإعلام: «من ناحيتي فليتبخروا».
من بين الأطفال واحد لا يلعب معهم. لا يشارك في الحديث ويكتفي بالقول: «والدي مات». تحاول أن تفهم مأساته، أن تحاكي مشاعره المتروكة بين السكة الحديدية والجسر الإسمنتي، لكنَّه لا يشارك. والده مات قبل فترة وجيزة بحادث سير على مقربة من الحي المحاط بالسير السريع من كل حدب وصوب، وهو لم يتحرر من العبء الملقى على طفولته. الطفل ليس وحده. العائلات خسرت أعزاء في حوادث سير هناك. في هذا المكان، العيش مخاطرة سير أيضاً.