أزمة بنيويّة تعصف بالاقتصاد الأميركي وتعمّقها «أهوال السوق»حسن شقراني
أوضحت التطوّرات الاقتصاديّة في أميركا والعالم في الفترة الأخيرة، أنّ المؤسّسة الماليّة التي تتعرّض لأكبر الضغوط هي «الاحتياطي الفدرالي الأميركي»؛ ففي مواجهة أزمة ممتدّة منذ الصيف الماضي، يحاول رئيس الاحتياطي، بن برنانكي، ترجمة الصلاحيات المخوّلة لصرحه إلى إجراءات عمليّة تواجه نتائج وصول أكثر من مليوني أميركي مقترض لشراء منازل، إلى حائط مسدود في ما يتعلّق بدفع مستحقّات الفوائد. وذلك لمعالجة أزمة أكبر: قطع الطريق (قبل بدايته أو عند مراحله الأولى) عن كساد يهدّد اقتصاداً يزيد حجمه على 13 ترليون دولار، وستصل تكلفة حربه في العراق على المدى الطويل إلى 3 ترليون دولارالأدوات التي استخدمها برنانكي هي في صلب العقيدة لأيّ مصرف مركزي: 1 ـ خفض سعر الفائدة من أجل تحفيز الاستثمار وخلق وظائف (جرى خفضها من 5.75 في المئة إلى 3 في المئة منذ الصيف الماضي) وبالتالي تحريك عجلة الاقتصاد للخروج من مأزق خلقته «أهوال السوق» الماليّة. تلك السوق معقّدة لدرجة يصبح عندها أيّ إجراء حكومي (المحفّزات الماليّة البالغة 168 مليار دولار مثلاً) للمعالجة محكوماً بتشاؤم المستهلكين الغاضبين.
2 ـ طبع المزيد من الدولارات. فعندما يشعر الاحتياطي بأنّ البلاد على عتبة انحسارات اقتصاديّة (نسختها الأكثر تطرّفاً هي كساد) يقوم بإصدار العملة الخضراء لشراء سندات من المصارف. وهذه الأخيرة تقوم باستغلال الدولارات الحديثة من أجل إقراض جديد يؤمّن توسّعاً في الاستثمار، والنتيجة: خلق وظائف جديدة.
غير أنّ تلك العلاجات التقليديّة لم تجدِ نفعاً؛ فبينما يستعدّ الاحتياطي لخفض جديد في سعر الفائدة خلال اجتماعه اليوم (يتوقّع البعض أن يكون نصف نقطة أو حتّى ثلاثة أرباع النقطة ليصبح 2.25 في المئة)، يتبيّن أنّ برنانكي لا يستطيع احتواء الخسائر التي يتكبّدها الناس جرّاء انخفاض أسعار المنازل، بل إنّ مؤسّسته تحاول السيطرة إلى حدّ ما على النتائج الكارثيّة التي ستعكسها الرهونات العقاريّة على الاقتصاد ككلّ.
ومن بين الإجراءات الطارئة التي اتّخذها (مدرجة ضمن ورقة أبحاث قدّمت عام 2004 تحت عنوان: «إجراءات قد يلجأ إليها الاحتياطي الفدرالي في حال اليأس») كان إعلانه الأسبوع الماضي عن تغيير سياسته: فعوضاً عن شراء سندات آمنة فقط، طرح 400 مليار دولار (تقريباً نصف أصوله الموجودة) لشراء منتجات ماليّة أخرى، بينها سندات مدعومة... برهونات عقاريّة.
غير أنّ ما يُطرح على بساط التحليل في الوقت الراهن هو: هل الإجراءات الحكوميّة، وضمنها ما يتّبعه الاحتياطي الفدرالي، إضافةً إلى إجراءات القطاع الخاص، ستؤدّي حتماً (في نهاية المطاف من دون تحديد مداه!) إلى عودة الأمور إلى طبيعتها أم أنّها ستخلق أزمة أخرى؟ فالحديث يزداد في الآونة الأخيرة عن ركود مصحوب بتضخّم، ما يعني: ارتفاعاً مستمرّاً في الأسعار مصحوباً بانخفاض في نسبة التشغيل.
إذاً فحال الاقتصاد الأميركي هي على هذا النحو من التعقيد: هناك أزمة أطلقها الإقراض غير الحكيم لشراء منازل وصلت أسعارها إلى مستوى غير منطقي، ما أدّى إلى انفجارها في النهاية... تحاول الحكومة الأميركيّة معالجة هذا الواقع وخلق أفق لا يكون الكساد قابعاً في نهايته... لكنّ هذه الإجراءات قد تؤدّي إلى عواقب أوخم من تلك التي كانت موجودة عند نقطة البداية!.
وفي إشارة جديدة إلى مدى خطورة الأزمة، قال المدير السابق للاحتياطي الفدرالي، آلان غرينسبان، في تصريحات نشرتها صحيفة «فايننشال تايمز» أمس، إنّ «الأزمة الماليّة التي تمرّ بها الولايات المتّحدة، هي على الأرجح، الأكثر إيلاماً منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية».
لذا فالأزمة هي بنيويّة، كامنة في قلب النظام، على عكس ما تحاول أن تروّج له إدارة الرئيس بوش، وعلى عكس ما حاول وزير الخزانة الأميركي، هنري بولسون، أن يشدّد عليه أوّل من أمس، عندما تحدّث عن أنّ الإدارة «ستفعل ما يتطلّبه الأمر» من أجل تهدئة الأسواق الفوضويّة، مدافعاً عن خطوة الاحتياطي الفدرالي لـ«إنقاذ» المصرف الاستثماري الأميركي «بير ستيرنز». ولكن ما لحق حديث بولسون هو إعلان أحد أكبر المصارف الأميركيّة، «جاي بي مورغن»، نيّته شراء المصرف المتعثّر، ما هزّ بورصات العالم، تخوّفاً من إمكان امتداد الأزمة.
وفي ظلّ هذا الظرف، وكما اعتادت الأسواق خلال الفترة الأخيرة، لامس الدولار مستويات منخفضة جديدة في مقابل اليورو (1يورو = 1.59دولار). وسجّل سعر برميل النفط رقماً قياسياً جديداً: 112 دولاراً.
من الواضح أنّ العلاج الذي يحتاج إليه الاقتصاد الأميركي لا يمكن أن يكون آنياً قائماً على تدارك مفاعيل انفجار فقّاعة قطاع المنازل، التي بان أنّها أعظم من فقاعة التكنولوجيا في بداية هذا القرن. وبالمعنى السياسي، يبدو أنّ إدارة بوش رأت جلياً أنّ الحلّ الباقي، بعد فشل التدابير الماليّة (حتى الآن في الحدّ الأدنى)، يكمن في مداواة أحوال النفط من خلال الضغط على الحلفاء، ومن هنا تكتسب زيارة نائب بوش، ديك تشيني، إلى الشرق الأوسط أهميتها.
لكنّ منظمة الدول المصدّرة للنفط «أوبك» لا تزال تشدّد على أنّ كميّة إنتاجها مقدّسة لأنّ «الأسعار المرتفعة غير مرتبطة بمستوى المعروض». لذا فما يمكن أن تعتمد عليه الإدارة هو عودة الأسعار إلى طبيعتها بطريقة طبيعيّة، ربّما بعد تخطّيها لعتبة الـ120 دولاراً للبرميل. وتماماً كما حدث بين آب وأيلول من العام 2006 (حينها انخفضت الأسعار 35 في المئة: من 78 دولاراً إلى 58 دولاراً للبرميل)، هناك احتمال كبير في عودة استقرار الأسعار (بين 70 و80 دولاراً للبرميل)، وخصوصاً أنّ الربيع قد حلّ وجرت مراكمة فائض جديد في السوق الأميركي.
عند ذلك المستوى الذي يبقى مفيداً لروسيا ولـ«أوبك»، تستطيع الولايات المتّحدة تنفّس الصعداء مع عودة ثقة مرحليّة للمستهلكين... لكنّ الخوف يبقى من المدى البعيد المحكوم بالنمو الاقتصادي القياسي في الصين والهند والبرازيل وروسيا... وبالتالي ارتفاع خيالي في سعر الذهب الأسود، وأملها الوحيد يبقى في أن «الإجراءات الطارئة» التي يطرحها برنانكي تتحوّل إلى معالجات هيكيليّة كتلك التي كانت تُمنح للعالم الثالث.