أطفال أدماهم الاحتلال وأقعدهم الحصار يلجأون إلى علاج مشروط في إسرائيلفراس خطيبمفارقة أن يكون مسبّب الداء هو نفسه صاحب الدواء. مفارقة يعيشهاأطفال فلسطينيون في أحد مستشفيات تل أبيب، حيث يتلقون العلاج من جروح الغارات وعوارض الحصار على غزة.علاج واقع تحت رحمة المصاريف،التي قد يعني وقفها الموت المحقّق

جداريات ملوّنة، وأشكال كرتونية تنحدر من السقف. رائحة أدوية تملأ المكان. غرف زجاجية انفرادية، وأطفال يمرّون على كراسي عجلات، بعدما أتعبتهم جرعات الكيماوي، يجرُّون أعمدة المحاليل ويغلفون شحوبهم بابتسامة صامتة، ومن خلفهم أمهات وآباء في عيونهم مأساة وعلى كاهلهم همّ. لكل واحد قصة احتلال، حالها من حال غزة.
هكذا يبدو قسم الأطفال في مستشفى «شيبا ـ تل هشاومير» في تل أبيب. فيه ما يقارب خمسين طفلاً فلسطينياً من غزة. الجزء الأكبر منهم مصاب بالسرطان بينما الآخرون مصابون بجراح خطيرة إثر القصف الإسرائيلي المستمر على القطاع.
وصل الأطفال إلى هذا المكان عندما عجزت مستشفيات غزة عن استيعاب حالاتهم وعلاجها. يسير العلاج بتمويل كامل من السلطة الفلسطينية، إذا تأخر التحويل المالي، فلا مكان للمريض في المستشفى.
الأطفال في المكان لا يعيشون طفولة مألوفة، لا تشغلهم كرة القدم ولا الرمال الممتدة على شاطئ غزة ولا المشاكسة بين الحارات، حتى المدرسة ليست جزءاً من أيامهم. يعيشون حياة محدودة الضمان، ترتكز على ساعات العلاج والعمليات الجراحية. المستشفى الكبير المحاصر هو الحياة بالنسبة إلى الأهالي والأطفال. هناك ينظمون عيشهم المؤقت الطويل. عندما يمرّ غريب بين أروقة المستشفى، يشهد توسلاً خجولاً من جانب الأهالي كي يدخل غرفة ابنهم أو ابنتهم، ويلقي السلام عليه. «عندما تأتون إلى هنا يفرحون كثيراً، حتى لمجرد السلام»، تقول إحدى الأمهات.
خلف الزجاج
حسن لم يتجاوز سن السابعة بعد، يعاني مرضاً نادراً، مناعته تقترب من الصفر، وتتضاعف حالته إذا خرج ولو قليلاً إلى الخارج. يعيش في غرفة انفرادية منذ ثلاثة أشهر. عمه وحده تمكّن من مرافقته من غزة. والدته ووالده ممنوعان من دخول إسرائيل «أمنياً».
يقف حسن في مستطيل زجاجي يطل على أروقة القسم الواسع. يسترق نظرة هنا وابتسامة هناك. يضحك مع تلك الممرضة، ويراقب أخرى لا تنتبه إليه. يحدق إلى الزائرين، لعلّ أحداً يبعث فيه أملاً.
يقول عمّه إن «حسن تعب كثيراً قبل وصوله إلى المستشفى وتضاعفت حالته. حمله والداه واتجها نحو حاجز ايريز. عندما وصلا إلى هناك قال لهما الجنود على الحاجز إنَّهما ممنوعان من مرافقة ابنهما الى المستشفى لأسباب أمنية، فاتصل بي والده وقال لي تعالَ حالاً إلى الحاجز، سترافق حسن إلى المستشفى. جئت لا أملك سوى الملابس التي ارتديتها، وها نحن قابعون منذ ثلاثة أشهر».
ينزل حسن عن الكرسي عندما يتعب، يتجه إلى الحاسوب. في ذلك اليوم كان حسن فرحاً، فقد حصل على هدية كثيراً ما أحبها، ثوب أزرق، على ظهره صور لأبطال المسلسل السوري «باب الحارة». يريها باعتزاز للزائرين. لا يحلم حسن بالكثير، يحلم بالعودة إلى غزة بكامل صحته، أن يقطع الحاجز، وهو يرتدي ثوبه الأزرق، وأمه في استقباله، في مكان يسمح بأن تقف به أمنياً.
أريد أن أعوّض والدي
على مقربة من غرفة حسن، يجلس محمد زعرب من رفح، وإلى جانبه والدته. محمد مصاب بالسرطان، وهو في مراحل جرعات الكيماوي، مرَّ على عملية لزرع النخاع الشوكي، لا يحرك رجله اليمنى. أمه لا تريد الكثير من الحياة «سوى أن يُشفى ابنها ويعود كما كان». هو «ركن البيت، والده أصم ورجله مبتورة، وهو المدلل وحيد بين ثلاث أخوات»، تقول أمه، محاولةً إخفاء دمعتها عن محمد المستلقي على السرير.
دخل محمد المستشفى قبل أربعة شهور، بعدما شعر بوعكة صحية في رجله. قبل دخوله المستشفى بسنوات، أصيب بعبوة خلّفها الاحتلال. عند اكتشاف السرطان، أشار أحد الأطباء الفلسطينيين في غزة إلى أنَّهم لا يستبعدون أن تكون الشظايا سبباً لإصابته بالسرطان.
لا يتحدث محمد كثيراً، حين تسأله عن حاله يغضّ الطرف، ويقول متمتماً «زهقان، تعبان، أريد العودة إلى غزة، أريد أن أتعلم شيئاً لأعوض على والدي قليلاً. كثيراً ما حلم بأن يراني متعلماً».
محمد يحلم بفلسطين مفتوحة الحدود. أحب أن أزور حيفا، أحب فلسطين كلها مفتوحة، حيفا هي أيضاً فلسطين. ينهي محمد جملته، ويبدو أنه يشعر بآلام، فهو على موعد مع مسكّن ليهدأ.
بحاجة إلى كل شي!
الأطفال ليسوا القصة الوحيدة المأساوية، الأهالي أيضاً. اسرائيل لا تسمح إلا لواحد فقط من أفراد العائلة بالبقاء إلى جانب المريض في تل أبيب. تمنحهم وجبة يومية فقط لا غير، «نتغدّى، ونأكل ما لا يأكله الأطفال في ما بعد. وأحياناً يأتي أولاد الحلال يوفرون لنا القليل»، يقول والد أحد الأطفال.
الأهالي ليسوا جزءاً من العلاج، مجرد مرافقين. حتى لو مرض أحدهم داخل المستشفى فلا يحق له تلقي العلاج، هذه هي سياسة المستشفى تجاه الأهالي. يقول أحد أفراد العائلة «شعرت بآلام رأس، طلبت من الممرضة أن تقيس لي ضغط الدم فقط، لكنَّها رفضت وقالت إنَّها ممنوعة من تقديم هذه الخدمة إليّ». الأهالي يشكون من الإدارة العليا للمستشفى. هم بحاجة إلى كل شيء. دائماً، بحاجة إلى زيارات وتبرعات ونشاطات وكل شيء. الأطفال اليهود الراقدون في القسم يتمتعون بشروط أفضل دائماً، فهم مسموح لهم بلقاء أهلهم، والجمعيات اليهودية تنظّم لهم يومياً نشاطات تربوية وتسلية وهدايا وتوفر للأهالي كل ما ينقصهم، الأمر الغائب عن العرب الجالسين هناكيعاني الأهالي أيضاً عدم معرفة اللغة العبرية، فهم لا يتقنونها. وتل أبيب مدينة غالية للعيش. أسعارها باهظة جداً، لا يقوى الإسرائيليون على العيش فيها. فكم بالحريّ القادمون من غزة للعلاج. كما يقع على كاهل الأهالي ترتيب التحويلات والتنسيق بين السلطة والمستشفى، ملاحقة السلطة لتسريع التحويل ومتابعة عمل المستشفى. هم مشغولون بالمستندات طيلة الوقت إلى جانب انشغالهم الأكبر.
أفراح غزة!
في المكان متطوعون شبّان من المؤسسة العربية لحقوق الإنسان التي تتخذ الناصرة مقرّاً له، ضمن مجموعة «حق» الشبابية التابعة للمؤسسة. أبرزهم محمد بدارنة وميس عوض، يزوران المستشفى مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع ضمن زيارات دائمة. ينظّمان فعّاليات ترفيهية دائماً. علاقتهما رائعة بالأطفال والأهالي. جميع الأطفال يعرفونهما بالاسم، وينتظرونهما بفارغ الصبر. تقدم المؤسسة العربية ما تستطيع توفيره للأهالي، فيما يجمع أعضاؤها تبرعات متواضعة لسد قليل من الحاجيات.
يقول بدارنة إنَّ المؤسسة تعمل على مشروع متواضع، أن تستمع الى أحلام الأطفال وتحاول تحقيقها. فهناك مثلاً من الأطفال من يحلم بتصوير أفراح في غزة، ونحن قبل عودته نوفر له كاميرا، تكون بمثابة هدية لتصوير أفراح غزة.
كان برهوم يسير في أروقة المستشفى فرحاً، يرتدي ملابس جديدة، ويودع الجميع. فهو عائد مع جدته إلى غزة، لثلاثة أسابيع، والعودة في ما بعد لاستكمال العلاج. كان برهوم فرحاً بالكاميرا. يحملها على كتفه. لكنَّه تخوف وجدّته من أن يصادرها الجندي الإسرائيلي على الحاجز «إذا قال لي إنه سيصادرها، فسأطلب منه ألّا يفعل، أنا مستعد لأن أريه كل الصور في الكاميرا، وأن أقول له إنَّها لي، وأنا أريد أن أصور الأفراح لا أكثر».


ما بين سطور الشهادة
عناوين الموت المنبثقة من غزة، لا تظهر كل ما يحياه الأطفال. فالقصف يولّد الشهداء، لكن هناك أيضاً جرحى، يعيشون صراعاً ما بعد الموت. في المستشفى أطفال جعل القصف منهم رهينة كراسي عجلات لا يقوون حتى على الحركة. منهم من أصيب برأسه وآخرون بعمودهم الفقري، ومنهم من بترت أطرافه. لكل واحد قصة، تندرج تحت قصص غزة التي لا نسمع عنها كثيراً حتى لو اعتقدنا أننا نسمعهاأبو جمال طويل القامة، قوي البنية، يبتسم للقادمين من بعيد. دمث الأخلاق وهادئ. لا يشكو كثيراً، على الرغم من أنَّ حياته أشبه بتراجيديا متعددة الفصول. الطائرات الإسرائيلية قصفت المنطقة خلال العدوان الأخير، عندما كان أطفال الحي يلعبون، استشهد ابنه 14 عاماً وأصيب الثاني بجراح خطيرة. رافق ابنه من مستشفى الى آخر وتقرر نقله إلى اسرائيل. عندما كان الخطر جاثماً على حياته، بينما لم يحضر جنازة ابنه الشهيد. يتحدث أبو جمال، بينما ابنه منصت للقصة حزين على كرسي عجلات. لا تزال أثار الشظايا في رأسه وكل جسده. وقد بترت أصابع يده.
في المكان أطفال من كل المناطق الفلسطينية، ومن كل الأجيال. منهم من يقضي أكثر من عام داخل المستشفى، حالات نادرة وأمراض لا تتّكل إلا على المجهول في حلّها. ثمة من يعاني تضخماً في الطحال والرأس، ومعاناة في المناعة وتعقيدات في العلاج، إضافةً إلى حالات خلّفها القصف. فترى كيف أن الشظية قطعت تطور هؤلاء الأطفال.
والأهالي، لا حوّل لهم ولا قوة. يعيشون على ثُغر الأمل الباقية، وهي قليلة. يحاولون دائماً، إيجاد النقطة البيضاء في هذا الحقل الأسود. ويعيشون درب الآلام بين غزة وتل أبيب.