strong>«لو مرّ يوم ٦ نيسان... مصر ستتغير»، تكلم السياسي المخضرم بحماسة لافتة، ورغم اقتراب عمره من الستين، إلا أن نبرة التفاؤل تثير الدهشة. مصر ستتغير؟ وبعد أيام قليلة؟ إنه التفاؤل اليساري المزمن انتظاراً لتحرك الجماهير، أو بحثاً عن فسحة أمل في دائرة مغلقة، وسط توقّع صداموائل عبد الفتاح
6 نيسان تحوّل إلى يوم متفق عليه بين شرائح غريبة عن بعضها في المجتمع المصري. عمال المحلة هددوا بالإضراب في هذا اليوم، وعلى موقع الـface book مجموعة تتضاعف أعداد المنتمين إليها كل ساعة، تدعو إلى إضراب عام في مصر. عمال شكّلوا قديماً قوة تغيير، وشباب، اللافت أن أعمارهم تبدأ من الخامسة عشرة، والغالبية في العشرين وما حولها. الغضب يجمع العمال ورواد المجموعة الحديثة. الأخيرة بدأت بشعار بسيط «ليكن يوم 6 نيسان انتفاضة شعبية ضد الغلاء والفساد».
في لحظات كانت العضوية تتحرك بالآلاف (وصلت الآن إلى ما يقرب من ٩ آلاف مشترك)، ومنها خرجت مجموعة أخرى تتخذ من الموعد شعاراً وتضع برنامجاً واضحاً ليوم الإضراب، يبدأ من تعليق علم مصر على الشرفات، والإضراب عن الذهاب للعمل والمدارس، والامتناع عن شراء أي سلعة، وارتداء ملابس سوداء مكتوب عليها «إني مضرب احتجاجاً على الغلاء». عضوية المجموعة ضخمة (تتجه الآن إلى ٢٩ ألف مشترك). وإلى جانب المجموعتين الكبيرتين ولدت مجموعة أصغر، حسها السياسي أعلى قليلاً وتتحدث باسم «كل القوى الوطنية»، وتستحث المشاركة بأسئلة «هل تعجبك حالك؟ هل تعجبك البلد؟ هل يعجبك أن أحمد عز يحتكر سوق الإسمنت؟ هل تعجبك شوارع مصر؟ التعليم؟».
وبعد الأسئلة دعوة إلى إعلان الوجود في مواجهة الحكومة، ورفض الفساد والمحسوبية وبلطجة الضباط والاعتقالات والإتاوات، والرغبة في مرتبات «تعيشنا»، وأمن وأمان، ومواصلات آدمية، ومستشفيات ودواء وحرية وكرامة و«شقق للعرسان».
أجيال جديدة تطالب بأولويات الحياة، وتتطلع إلى خيط رفيع من أمل في أن تصبح مصر «بلدهم فعلاً». وربما تكون المجموعات هي أول تجربة في انتزاع الحق عبر وسائل لا تصلها اليد القوية للأمن. ديموقراطية تنمي مشاعر الغضب وتخلق مزاجاً سياسياً حاداً لكنه من دون انتماء سياسي تقليدي لحزب أو تيار أو جماعة أيديولوجية محددة. مزاج تختلط فيه الراديكالية اليسارية بعواطف المحافظين. من الدفاع عن الرسول ضد الإهانة الدنماركية، إلى نشر صور خاصة، بجرأة تلهث وراء الحرية الشخصية الغائبة في المجتمع أصلاً.
كيف التقى هذا المزاج الغاضب الجديد مع احتجاجات عمالية تريد تحقيق مطالب محددة؟
عمال المحلة قادوا منذ أشهر إضراباً كبيراً حققوا فيه انتصاراً هزّ أركاناً كثيرة في علاقة الدولة بقطاعات صامتة في المجتمع. والتهديد بجولة أخرى من الإضراب له معنى أكبر من الغضب أو الاحتجاج على الصمت والكبت الطويل.
يلتقي مزاج السخط الشبابي إلى حدّ ما مع انتفاضات الشرائح الصامتة. في مواجهة إحساس فقدان الأمل أو فشل صفقة «الأمان والحياة المستريحة، مقابل الصمت، وتفويض غير معلن بإدارة البلد» التي كانت بين نظام مبارك والمجتمع الخارج من حروب عبد الناصر على الجبهة مع إسرائيل وحروب السادات للعودة من الجبهة. مبارك كان وعد بالاستقرار بعيداً من الزعماء الملهمين للحرب والسلام. وشرعيته لم تكن على عمل ضخم، بل على مشاركة في حرب. الأمل كان مع مبارك أكبر من السادات، في نسيان طعم الهزائم وانتظار الحروب الكبرى. فهو ليس زعيماً ولا يهوى قيادة الأمن. إنه مدير دولة لا أكثر. وهذه صفات يمكنها أن تلملم الجراح وتضع استقراراً لحياة شعب
منهك.
عاش نظام مبارك على مقولة «حرب تشرين هي آخر الحروب» التي ورثها من السادات، وأعطى الأمل في حياة بلا أزمات. لكنه بعد ٢٧ سنة والعودة من جبهة الحرب المفتوحة، لم يستفد من قرار عدم الحرب إلا نادي المقرّبين من مبارك وعائلته. وتغير اتجاه الحرب من الجبهة الخارجية إلى الجبهة الداخلية، وتوجهت مدافع غير مرئية للداخل، حتى أصبحت الحياة لأكثر من ٨٠ في المئة من المصريين حرباً يومية.
بداية من حرب الحصول على خبز بسعر مدعم، إلى الوصول إلى البيت بعد رحلة عبور شوارع القاهرة المكدسة من ساعات الصباح الأولى إلى ما بعد منتصف الليل. الأخبار لا تتوقف عن معارك بالحجارة بين عساكر الأمن المركزي (المساكين أصلاً) ومجموعات من فقراء المصريين، مرة على طابور الخبز، ومرات على باب مركز شرطة يحتجز مواطناً في زنزانات التعذيب. لكن الحرب الكبرى هي الحياة نفسها بعدما أصبح شراء الاحتياجات الأساسية يحتاج إلى «عسكرة» كل مواطن أمام مكاتب التموين. أول من أمس، في مدينة المنيا (جنوب العاصمة)، كانت آخر معارك الحجارة بين الشرطة ومواطنين أجبروا على تنفيذ حكم بإخلاء بيوتهم. نتج عن المعركة مصابون من الطرفين. في اليوم نفسه اشتعلت معركة أخرى على مياه الري في مدينة الفيوم (الجنوب أيضاً لكن الأقرب إلى العاصمة).
«ها هو زمن الأزمات يعود من دون حروب»، يقول العجوز المخضرم الذي يتابع الحياة الصعبة لأولاده الذين لم يتحملوا مسؤولية لا في ١٩٦٧ ولا ١٩٧٣ ولا حتى في ما بينهما حين طبق نظام الحصص والأساسيات الشحيحة. لماذا تورث الأجيال الأزمات ولا تعبر إلى حياة أكثر اطمئناناً؟ كيف تدخل شرائح كبيرة في حرب من أجل رغيف الخبز أو الدواء أو زجاجة زيت بعد كل هذه السنوات بعيداً من الحرب العسكرية وأحلام الأيديولوجيين الكبار؟ هذه ربما أسئلة وراء ما سيحدث في ٦ نيسان.