حسام كنفاني
المعطيات الأولية لحصيلة لقاءات القاهرة تدّل على الفشل في التوصل إلى اتفاق فلسطيني ــ فلسطيني أو فلسطيني ــ مصري لإدارة المعابر، وهو ما يحمل في طياته الكثير من بوادر شؤم على الأوضاع في قطاع غزة والعلاقات المصرية مع «حماس» بالدرجة الأولى، ولا سيما أن هذه العلاقات يشوبها ما يكفي من السوء
الأمل قد يكون معقوداً على ما أعلنه وفد «حماس» بعد مغادرته القاهرة، وهو أن لقاءً تالياً قد يعقد لاستكمال المباحثات. هذا الأمر قد يكون ضرورة فلسطينية ومصرية على حد سواء، ولا سيما أن لقاءات القاهرة، بالنسبة إلى الأزمة بين «فتح» و«حماس»، قد تكون الفرصة الأخيرة لمعالجة حال الانقسام الفلسطيني. ومن المفترض أن طرفي الصراع استنفدا خلال العامين الماضيين كل أوراق القوة التي كانت بحوزتهما، وهما اليوم لا بد أن يقفا أمام لحظة المراجعة والنقد الذاتي لتجارب الحوار والاقتتال السابقة ومحاولة الخروج بالحد الأدنى من الخسائر.
وما يعطي حوار القاهرة صفة «الفرصة الأخيرة» يتمثل في عودة الزخم العربي إلى مسار الأزمة الداخلية؛ فالقاهرة باتت طرفاً أساسياً فيها بعد حادث معبر رفح الأخير، وبالتالي فإن خلق حد أدنى من التفاهم الفلسطيني ـــــ الفلسطيني، على الأقل عند معبر رفح، بات من صميم الأمن القومي المصري. الأمر نفسه بالنسبة إلى السعودية، التي عادت، وإن بحذر، لتضطلع بدور في مساعي إعادة اللحمة بين طرفي الأزمة الفلسطينية، ولا سيما أنها لا تريد استعادة فشل اتفاق مكة، وبالتالي فهي لن تدخل بثقلها العربي والإسلامي قبل تأمين مقومات نجاح واستمرارية لأي اتفاق من الممكن أن ُتسهم في التوصل إليه مستقبلاً.
لقاءات القاهرة، في حال استكمالها، قد تكون محطة انطلاق نحو سلسلة أخرى من الوساطات واللقاءات، لا بد أن تحاول معالجة الثغرات والعثرات التي اعترت المحاولات السابقة، ولا سيما في ما خص تعاطي البعض الفلسطيني مع الشأن الداخلي من نظرة الشروط الغربية.
وقد يكون من المفيد استرجاع محطات أساسية من الصراع الداخلي الفلسطيني وأوراق القوة التي حاول كل طرف استخدامها في وجه الأخر، وقراءة المتغيرات التي طرأت عليها.
لم يكن الانتصار الانتخابي لحركة «حماس» في كانون الثاني 2006 بداية لحال الخلاف مع «فتح»، غير أن الانتخابات مثلت ذروة لحال المناكفة. والتعاطي بين الطرفين بعد الانتخابات أعطى ملامح حال الانقسام، ولا سيما أن «فتح» رفضت مشاركة «حماس» في الحكومة، مفضلةً البقاء في صفوف المعارضة، ما أعطى الحكومة الأولى صفة «حمساوية» بحتة، وهو كان المطبّ الأول التي وقعت فيه الحركة المنتشية من انتصارها الشعبي والمستجدة على ساحة العمل السياسي الرسمي، إذ لم تكن حريصة قَطّ على إشراك فصائل أخرى فاعلة على الساحة الفلسطينية.
تراجع «فتح» عن المشاركة في الحكومة لم يكن يعني أبداً إفساح المجال لـ«حماس» لخوض تجربتها السياسية الأولى، بل عمدت إلى وضع العراقيل عبر إحكام قبضتها على الأجهزة الأمنية، وهو ما مثّل إحدى أبرز نقاط القوة بالنسبة إلى «فتح».
من الأمن انطلقت شرارة الانقسام، إضافة إلى تبني بعض الأطراف في «فتح» شروط المجموعة الدولية للاعتراف بالحكم الجديد والمراهنة على هذه الشروط لإثبات فشل تجربة حكم «حماس»، التي لعبت على ورقة الأمن الرديف، مستفيدة من ذراعها العسكري، فعمدت إلى إنشاء ما عرف في ذلك الحين بـ«القوة التنفيذية».
ومثّل تشكيل هذه القوة بداية فرز القوى على الأرض، وعبرها انطلقت أولى موجات الاقتتال، التي فتحت الباب أمام سلسلة حوارات كان مصيرها الفشل. الحوار الأول كان على وثيقة الأسرى، التي طرحت بوصفها مبادرة خلاص وطنية، وتم بالفعل اتفاق أولي على الوثيقة مع بعض التعديلات التي تراعي الميثاق «الحمساوي»، إلا أنه لم يعصم الحال الفلسطينية من الانزلاق مجدّداً إلى الاقتتال، ولا سيما أن الورقة الكبرى بيد السلطة الفلسطينية وحركة «فتح» تمثلت في الاعتراف الدولي بشرعيتها، ومنه انطلقت لرفض أي تعامل مع «حماس» يسقط عنها هذا الغطاء.
وانطلاقاً من المسببات نفسها سقط اتفاق مكة، الذي تمّ التوصل إليه في شباط 2007، ولا سيما أنه لم يسع إلى معالجة جذور الخلاف بين الطرفين، بقدر ما حرص على تأمين إطار شراكة ثنائية استبعدت باقي الأطراف على الساحة الفلسطينية. غير أن الشراكة سقطت عند الامتحان الأوّل، إذ بقي الطرفان أكثر من شهر في صراع على المحاصصة، حتى ولدت حكومة الوحدة الوطنية الأولى.
الولادة القيصرية للحكومة ووضعها أكثر من مرة في غرفة الإنعاش، لم يسعفاها للبقاء على قيد الحياة طويلاً، ولا سيما أن المناوشات بقيت على حالها وسط حال من عدم الثقة بين الطرفين؛ فـ«حماس» اتهمت أطرافاً في «فتح» بتطبيق خطة المنسق الأميركي في الأراضي الفلسطينية كيث دايتون الهادفة إلى نزع أسلحة الفصائل، فيما اتهمت «فتح» «حماس» بتنفيذ أجندة خارجية لمصادرة القرار الوطني الفلسطيني.
بعد أشهر على عملية «الحسم العسكري» في قطاع غزة في حزيران الماضي، هاتان التهمتان لا تزالان على حالهما، والشروط والشروط المضادة لا تزال تؤدي دورها في عرقلة أي مخطّط حوار، رغم أن أوراق القوة لدى الطرفين لم تعد على حالها؛ فبالنسبة إلى «حماس» لم تعد المشروعية الشعبية سنداً لها. وبالاستناد إلى استطلاعات الرأي الأخيرة، فإن حالاً من النزف في الشعبية اعترى «حماس» منذ وصولها إلى الانتخابات. النزف أيضاً أصاب، ولا يزال، يصيب قوتها الأمنية عبر موجة الاغتيال الإسرائيلية. وبعيداً عن رومانسية دعوات الحوار، فإن العودة إلى حال الوحدة بات ضرورة وجودية لحركة «حماس»، لا بد أن تسعى جاهدة له مع الحفاظ على الحدّ الأدنى من المكتسبات.
في المقابل، فإن ورقة محمود عباس بالاعتراف الدولي لا يمكن صرفها داخلياً من دون اتفاق سلام مشرّف يدعمها. غير أن أسهم السلام في الفترة الأخيرة تراجعت أمام الضرورات الأمنية الإسرائيلية والانتخابات الرئاسية الأميركية، إضافة إلى صعوبة تحقيق مثل هذا السلام في ظل حال الفصل الجغرافي والسياسي القائم على الساحة الفلسطينية. وبالتالي فوعود عباس برغد العيش قد تتكسر عند غياب أفق السلام.
أمام غياب معطيات القوة لدى الطرفين، فإن الحوار بات ضرورة لا يمكن إغفالها مع الحرص على إبقاء باب التنازلات مفتوحاً بانتظار من يحسن إدارتها وتنفيذها.