strong> أرنست خوري
هل يجدر بمن قرأ وشاهد أخبار التظاهرات الحاشدة التي نظّمها معارضو إلغاء حظر الحجاب الإسلامي في الجامعات والمدارس التركيّة، أن يُفاجَأ؟ سؤال يُطرَح استناداً إلى جملة من المعطيات، بعضها يقوّي حجّة من رأى أنّ ردّ الفعل العلماني في الشارع، منطقيّ، وبعضها الآخر يذهب منحى استغراب هذه التحرّكات.
استغراب مرده إلى أن البحث في هذا الموضوع قائم منذ أشهر، حتّى خرج الحزبان الأكثر تنافراً، في العقيدة والثوابت والاستراتيجيّة، «العدالة والتنمية» الإسلامي المعتدل الحاكم، و«الحركة القوميّة التركيّة» المعارض المتطرّف بعلمانيّته، بتوافق على نصّ تعديل دستوري وقانوني واحد. تعديل، بقراءة سريعة لما رشح عن مضمونه، يمكن وصفه بأنه «ربع إلغاء للحظر عن ارتداء الحجاب» في المؤسّسات التعليمية، أو في أحسن الأحوال، «نصف إلغاء للحظر».
حتّى يوم الجمعة الماضي، تاريخ تقديم اللجنة النيابيّة المشتركة بين الحزبين لمشروع التعديل، كان الموعد المقرّر لطرح النصّ أمام التصويت، هو 4 شباط، أي اليوم الاثنين. لكنّ هذا التاريخ بات في حكم التأجيل بعد الموجة الشعبيّة العارمة التي غطّت ساحة قبر أتاتورك أوّل من أمس بنحو 100 ألف علماني تظاهروا ضدّ إمرار مشروع التعديل.
التحرّك الشعبي ليس فيه من العفويّة شيء. هذا النوع من التظاهرات، هو تكتيك تقليدي لطالما اعتمده الشارع العلماني، ومن خلفه الجيش، للحؤول دون «المسّ بالقيم العلمانيّة» في البلاد. وقبل شهر آب الماضي، كانت هذه التظاهرات فعّالة للغاية، إذ إمّا كانت تحصل تمهيداً لحصول انقلاب، كما حصل في عام 1997 على حكومة الإسلامي نجم الدين أربكان، أو كانت بمثابة جرس إنذار يضع حدّاً لحلم تُعَدّ العدّة لإمراره «رغم أنف العلمانيّين».
لكن بعد انتخاب عبد الله غول في شهر آب، تغيّرت المعادلة؛ فالتظاهرات المليونية لم تحل دون انتخاب «إسلاميّ» رئيساً على عرش أتاتورك، وقد مرّ نحو 6 أشهر ومؤسّسات الرئاسة والبرلمان والحكومة ذات الطابع الإسلامي، ثابتة في موقعها.
إذاً، رغم التعبئة الحاشدة في الشارع وفي الوسط الثقافي الأكاديمي والطلابي، يُتوقَّع أن ينال المشروع غالبيّة الثلثين من أصوات النوّاب؛ فعدد نوّاب «العدالة والتنمية» و«الحركة القوميّة» هو 410 أصوات من أصل مجموع 550، لكنّ طعن «المحكمة الدستوريّة» هو الذي يهدّد المشروع جدّياً.
الأهمّ أنّ داخل المشروع، الذي سيخضع للتصويت في غضون أيّام، بنوداً تفرّغه من جزء كبير من مضمونه، وهو ما تتجنّب الإشارة إليه القوى المنظّمة للحملة التي اتّخذت لها شعارات مضخّمة ومبالغاً فيها من نوع «السماح بارتداء الحجاب في المدارس والجامعات سيجعل تركيا دولة إسلاميّة»، و«لا علم ولا ثقافة تحت ظلّ الحجاب» و«لا تسمحوا بأن تضيع تركيا وإنجازاتها الجمهورية»... إلى ما هناك من شعارات شعبويّة تحاول إظهار الموضوع على أنه فرض القرآن والشريعة عقيدة رسميّة في البلاد.
وتُظهر تفاصيل الاتفاق الذي توصّل إليه الحزبان المذكوران، أنه لا يجوز حتّى وصفه بأنه إلغاء للحظر على ارتداء الحجاب في الجامعات: الاقتراح الجديد سيسمح فقط للطالبات بارتداء غطاء للرأس يغطّي حتى أسفل الذقن، في حين أنّ الحجاب الذي يغطّي الرأس ويدور حول منطقة الصدر بالكامل، سيظلّ محظوراً داخل الحرم الجامعي، كما أنّ البرقع، الذي يغطّي الجسم بأكمله والأشكال الأخرى للزيّ الإسلامي التقليدي، ستظلّ محظورة. كما ستُمنع بموجبه النساء اللواتي يدرّسن في الجامعات والموظّفات في الإدارات الحكومية من ارتداء أي نوع من أشكال الحجاب.
الربح بالتدريج، تكتيك ذكي يعتمده رجب طيّب أردوغان تفادياً لردّة فعل غير متوقّعة: اليوم يُرفَع الحظر عن ارتداء نوع واحد من الحجاب. غداً يُسمَح لجميع الأنواع منه، بعدما يتبيّن أنّ هذا السماح لم «يؤسلم» التعليم ولم يُلفّ قبر أتاتورك بالعباءة الإسلاميّة. وهكذا، سيكون لهذه المكاسب بالمفرّق، أثر كرة الثلج التي تكبر وحدها، فيصبح في غضون أشهر، السماح بارتداء الحجاب، رغم أنّه سيبقى رمزاً للإسلام السياسي، على حدّ اعتراف أردوغان، في الوظيفة الرسمية وكلّ مرافق الدولة وأمراً مقبولاً اجتماعياً وسياسياً.
لكن رئيس الوزراء أطلق أمس إشارات «غضب» ليس من مصلحته أن تكون خروجاً عن طوره الهادئ. فبعدما لازم، هو وفريق عمله الحكومي، ترداد الكلمات «الموزونة» في الردّ على منظّمي الحملة المضادّة للحجاب، تساءل أمام جمع من أنصاره في إسطنبول: «ألستم أنتم الذين تقسمون المجتمع باتّهامكم كلّ من لا يرتدي أو يفكّر مثلكم بأنه عدو للعلمانية أو للنظام»؟