أرنست خوري
مسيرة طويلة قطعها الرئيس الأميركي جورج بوش خلال أكثر من سبع سنوات في البيت الأبيض. بدأت بمشروع متواضع سرعان ما تحول إلى حلم بتغيير العالم، سعى جاهداً لتحقيقه بالسياسة والعسكر، تحطّم على هامش صراعات المنطقة، فحوّله إلى «رئيس إدارة أزمات» ينتظر خليفته

«خطاب حال الاتحاد»، موعد سنوي ينتظره الأميركيّون والعالم بأسره، لفكّ الرموز التي بموجبها سيحكم الرئيس الأميركي بلاده، والعالم. خطاب غالباً ما يكون للشأن الأميركي الداخلي، الحيّز الأوسع من صفحاته الطويلة، من دون أن تغيب موجبات «قيادة واشنطن للعالم» عن السياق. والرئيس جورج بوش، أضفى على خطاباته شيئاً من شخصيّته، فجاءت في أجزاء منها، مرتكزة على ثوابت لم تتغير، ومليئة بالتقلّبات.
ثلاثة خطابات لم تطبع فقط حالة الاتحاد الأميركي، بل العالم بأسره: الأوّل الذي ألقاه بوش قبل اعتداءات 11 أيلول 2001، تحديداً في 27 شباط 2001، حيث انعكست الظروف الاقتصادية والسياسية «الهادئة»، تفاؤلاً وارتياحاً على كلمته، مع ما تضمّنه من إشارات «تنبّؤيّة» حول حروب مقبلة تُفرَض على بلاده، أو تفرضها هي.
الثاني هو الذي ألقاه بعد أشهر من اعتداءات 11 أيلول، وبالتحديد في 29 كانون الثاني 2002. كان في جميع المقاييس، خطاباً حربيّاً، تضمّن ما تضمّنه من آثار اللحظة التاريخية التي شكّلتها ضربات البرجين في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع في واشنطن. وآخر خطابات الرئيس الـ43، ألقاه قبل أيّام، ودّع فيه مواطنيه بتمسّك بمبادئه في الاقتصاد والسياسة حيناً، وبتبشير بقدوم جولات مقبلة من الحروب الأميركية المتنقّلة حيناً آخر.
ثلاثة مواضيع من المفيد التوقّف عندها في المحطّات الثلاث: الهمّ الحربي لقيادته، أو بتعبير أكثر دبلوماسيّة، السياسة الخارجية للولايات المتّحدة. ثمّ مشروعه الاقتصادي العالمي الذي لا يمكن فصله عن مسار الحرب والسلم الأميركيين. والثالثة: الهمّ الذي يبقى رئيساً بالنسبة للمواطن الأميركي: نسب الضرائب والنمو والتجارة والإنفاق والأزمات الاقتصادية...
في أوّل خطاباته الرئاسية، انعكس الظرف السياسي المريح سياسيّاً واقتصاديّاً تفاؤلاً على خطابه الذي استهلّه بوصف بلاده بأنها الدولة التي «تعيش سلاماً مع الدول الأخرى». كان مشروع الرئيس الجديد، الاستفادة من الإرث الذي أرساه سلفه «الديموقراطي» بيل كلينتون، لفرض قيادة بلاده على العالم «بسلاسة»، وهو ما انقلب رأساً على عقب بسرعة.
فبعد أشهر من 11 أيلول 2001، وقف بوش على المنبر ليلقي خطاباً حربيّاً يحاكي فيه مزاج الرأي العام الأميركي المعبّأ. وفيه، لخّص جميع أوجه معاناة بلاده دفعة واحدة: «بلادنا تعيش حالة حرب، واقتصادنا في تراجع، والعالم المتحضّر يواجه مخاطر غير مقبولة». بعد هذا التوصيف المأساوي، كان لا بدّ له من اقتراح الحلول: قيادة العالم من خلال الحروب. وإذا كان خطابه السابق لم يشر فيه ولو مرّة واحدة إلى دولة أفغانستان، فكلمته اللاحقة هيمنت عليها هذه الدولة والإنجازات التي تحقّقت فيها بفضل بلاده: تحريرها من العبودية والإرهاب... وللإرهاب قصة طويلة مع بوش في «حال الاتحاد 2002»، إذ وردت هذه التسمية على لسانه أكثر من 35 مرّة!
في المقابل، وفي ظلّ حالة السلام التي كان يتغنّى بها، أبرز ما توقّف عنده بوش، هو ضرورة حماية الدول الحليفة والصديقة لبلاده، من هجمات «إرهابيّة»، وهي الكلمة التي ذكرها مرّة واحدة في كل خطابه الأوّل. والحماية تكون عبر «نشر منظومة صاروخية دفاعيّة فعّالة». ومن دون أن يذكر أين يجب نشر هذه المنظومة ومتى ولحماية مَن ومن أية أخطار، لم تمرّ أشهر حتّى بدأت تتبلور خطط واشنطن لنشر منظومة الدرع الصاروخيّة في دول أوروبا الشرقية المحاذية للحدود الروسيّة، وهو ما رأته موسكو تهديداً مباشراً لأمنها القومي، الموضوع الذي أعاد لغة الحرب الباردة وأجواءها إلى الأذهان.
والكلمات السرّية الثلاث لخطاب 2001 كانت: الاستعداد للأسوأ في مجال الحروب، الأمر الذي دفعه إلى طلب موازنة أكبر للدفاع، والعمل الحثيث على الاستقلال النفطي عن الدول المنتجة لهذه المادّة، وخفض الضرائب لزيادة الإنفاق وخلق المزيد من فرص العمل.
هذا داخليّاً، أمّا خارجيّاً، فالوصفة لم تتغيّر في عهده طيلة 8 سنوات: جعل الولايات المتحدة بطلة الحريّة العالمية من خلال فتح الأسواق كلياً وتحرير التجارة وتحرير الأنظمة من الديكتاتوريات.
وفي الاقتصاد، ظلّ الثابت غير المتحوّل في خطابات بوش الثلاثة هو رؤيته النيو ليبرالية للاقتصاد، وخصوصاً في دور الدولة في القطاعات الاقتصاديّة من ناحية عدم التدخّل، فدور الحكومة «يجب أن يكون محدوداً».
بدا بوش عام 2001 مرتاحاً إلى درجة أنه اقترح على مجلسي الكونغرس البدء بخطّة عشرية لسدّ ديون بلاده، فطلب مبلغ ألفي مليار دولار لسدّ جزء من الديون على 10 سنوات... واختفى المشروع عن السمع بعد ذلك التاريخ.
في خطاباته الثلاثة، بقيت «الضرائب»، الكلمة التي يكرهها بوش وجميع الليبراليين عموماً: فـ«ضريبة 15 في المئة على العائدات والمدخول رقم كبير جداً، لذلك يجب خفضها إلى 10 في المئة». كان ذلك في خطابه الأوّل، قبل أن يفرض خفضاً كبيراً في الضريبة من خلال دعم رئيس المصرف الفدرالي ألان غرينسبان، الذي عاد العام الماضي وفضح إدارة بلاده «التي احتلّت العراق من أجل السيطرة على نفطه». على هذا الأساس خفض الضرائب منذ 2001 على جميع شرائح المكلّفين وألغى ضرائب الولادة والوفاة والضرائب على الساعات الإضافية من العمل، وخفض خصوصاً الضرائب المفروضة على الأثرياء.
أشياء كثيرة تغيّرت جذرياً في خطابه عام 2002، وبعدها عام 2008، إلا الطرح الإيديولوجي لرؤيته لقيادة بلاده للعالم. قيادة لم يجد لها مبرّراً أفضل من «رسالة أميركا الإلهيّة ضدّ الشرّ والإرهاب»، في تمتين للثنائيّة التي أرساها منذ وطأت قدماه البيت الأبيض، عندما قسّم العالم إلى محورين: الشر والخير، محور الأوّل يضمّ دولاً تتغيّر عند الحاجة (كوريا الشمالية مثلاً)، أما الثاني فنادٍ مفتوح لكل من ينضمّ إلى عقيدة الحروب الاستباقية وتحرير التجارة والأسواق المفتوحة.
ولم يظهر الأثر الذي تركته سلسلة الاستقالات التي قدّمها «صقور المحافظين الجدد» من إدارته على التخفيف من المنسوب العقائدي الدوغمائي الشعبوي. فرغم أنّ دونالد رامسفيلد وريتشارد بيرل وجون بولتون وبول وولفويتز وآخرين، كانوا أصحاب الفضل على بوش في ابتداع الصيغ التبريرية الأكثر ابتعاداً عن الواقعيّة السياسية للهيمنة الأميركية على العالم، بقي الرئيس مصرّاً على الإبقاء على النفحة الإيديولوجية في متن خطاباته.
في خطابه الهجومي عام 2002، استعاد مقاطع كاملة من ردّه على اعتداءات 11 أيلول، كأنه لا يريد أن يُمحى أثر هذه الاعتداءات من نفوس الأميركيّين. ويمكن من قرأ هذا الخطاب، أن يستشرف أن الحروب الأميركية مقبلة لا محالة. فـ«الحرب على الإرهاب بدأت فقط في أفغانستان» وهو يمهّد لنقل المعركة إلى أراضٍ جديدة. واللافت أنّ «هذه الحرب لن تنتهي في أيّامنا»، أي بكلام آخر، توقّعوا أن تطول عقوداً أو حتّى قروناً.
وضع الرئيس المجروح في كرامة بلاده الوطنية، هدفين «إرهابيين»: المنظّمات («القاعدة»، حزب الله و«حماس» و«الجهاد الإسلامي»)، ودول «محور الشرّ». أكثر الدول التي شغلت باله من حيث احتواؤها خلايا إرهابية قد تتحرّك قريباً، لم تكن سوى البوسنة والفيليبين والصومال! أمّا باكستان، فنال حينها رئيسها برويز مشرّف الإشادة والتقدير من الرئيس بوش. بالإضافة إلى هذه الأهداف المحتملة، ركّز على كوريا الشمالية وإيران اللتين لم يذكرهما في الخطاب السابق. أمّا لومه للنظام العراقي في ذلك الوقت، فانطلق من أنّ نظام صدّام حسين صنّع في العقد الأخير أسلحة دمار شامل، من دون التلميح إلى أي علاقة بين صدّام و«القاعدة»، وهي من الذرائع الأساسيّة التي برّر فيها قراره احتلال بلاد الرافدين في 20 آذار 2003.
من أهم النقاط التي علقت في أذهان المراقبين الذين أولوا خطاب 2002 أهمية كبيرة، الطريقة التي شرّع بها بوش الحروب الاستباقية من دون أي إشارة إلى منظمة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، فرأى أنّ بلاده «لن تقف أبداً تراقب الخطر يقترب منها بل ستضربه فور تحسّسها به».
الخطاب الحربي لبوش طاول الاقتصاد، فطلب من الكونغرس إقرار «موازنة حربيّة»، «قد نحتاج لها في حروب مستقبليّة»، كاشفاً عن أنّ الموازنات العسكرية التي ستحتاج إليها بلاده تقارب أو تفوق حتّى المصاريف التي تكبّدتها إدارة رونالد ريغان في «حرب النجوم» ضدّ الاتحاد السوفياتي في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
في قراءة بين سطور كلماته، لا بدّ من ملاحظة الاعتراف الضمني الذي أتى على لسانه، بأنّ بلاده انتظرت لحظة مصيرية، مثل هجمات 11 أيلول لتنتهز «فرصة تاريخية سنحت لنا لنكون دولة تحقّق أهدافاً خارج حدودنا، ولقيادة العالم ولتعميم قيمنا وثقافتنا بمباركة إلهية»... هو الله الذي ذكره بوش في خطاباته، تقريباً عدد المرات نفسها التي ذكر فيها «الإرهاب».
وقد يكون «خطاب الحرب» فرض على الرئيس الأميركي الغوص في تحديد مواجهة على كلّ المستويات. فإلى جانب الكلام الحربي المباشر، والتمويل اللازم للحروب، طغى عصر «نشر الديموقراطيّة» على خطابه، وهو كان انعكاساً للفترة التي هيمن خلالها دعاة تغيير الأنظمة غير الديموقراطيّة، خصوصاً في العالم العربي، على إدارة بوش، قبل أن تزول هذه الحقبة، وتعود الواقعيّة التي لا تعطي الأهمية الكبيرة لنشر الديموقراطيّة ودعم المعارضين في الأنظمة الحليفة لواشنطن.
الثالوث المقدّس للخطاب الأخير (28 كانون الثاني 2008) لم يتغيّر: الحرب، الاقتصاد الأميركي والاقتصاد العالمي. وجاءت الصفحات الطويلة عن الاقتصاد الأميركي، رغم إلحاح القضايا الخارجية، على الأرجح لحاجات تتعلّق بضرورات خدمة الجمهوريّين في الانتخابات الرئاسية المقبلة لكون المرشّحين الجمهوريين يتبنّون الأجندة الاقتصادية التي أرساها بوش طيلة الأعوام الثمانية لعهده.
وبطريقة أميركية نموذجيّة، ينتقل من الاقتصاد إلى السياسة والحرب، مقدّماً أمثلة عن كيفيّة «شراء» رضى الشعوب في العالم الثالث، من خلال اتفاقات التبادل الحرّ، كولومبيا ضدّ فنزويلا ـــــ تشافيز نموذجاً.
الاعتراف الأهم الذي أتى به بوش، هو باستحالة ضبط بلاده كلياً لحدودها. بالتالي هذا اعتراف بتهافت اتهاماته الدائمة لإيران وسوريا بالتراخي في ضبط حدودهما مع العراق.
وفي مجال عرض إنجازات سياسة بلاده خارجياً، يتوقّف عند انتخابات جورجيا وأوكرانيا (ولو تأخّر قليلاً موعد خطابه لكان ذكر على الأرجح صربيا، التي أطاحت حلفاء موسكو، وأتت بنخب سياسية موالية لواشنطن عموماً». أمّا لبنان، فيأخذ حيّزاً مهماً من خطابه، إذ يذكره بنشوة النصر الذي أوصل حلفاءه من «ثورة الأرز» (وهو صاحب التسمية).
وكلمة فلسطين، كانت أيضاً ضيفاً جديداً على خطابه، إذ لم يأتِ على ذكرها في خطابيه السابقين عامي 2001 و2002، بينما جدّد أمله برؤية قيام دولة فلسطينية قبل مغادرته البيت الأبيض، نهاية العام الجاري.
وفي إشاراته الحربيّة، يمرّر ملاحظة مهمّة، يقول فيها إنّ النصر في أفغانستان والعراق «مصدر وحي لنا»، كأنه أراد أن يقول إنّ هذين النصرين يمكن تعميمهما في أمكنة أخرى من العالم... إيران أو سوريا مثلاً؟
وعن «النصر» في العراق الذي أسهب في الاحتفال به، طمأن حلفاءه العراقيّين إلى أنّ الجيش الأميركي «لن يتركهم قريباً»، في إشارة ضمنية إلى المعاهدة طويلة الأمد التي ستبدأ المفاوضات بشأنها في الأسبوع الثالث من الشهر الجاري. وفي السياق نفسه، أكّد بوش، بشكل شبه ناجز، أنّ عودة الجنود الأميركيين إلى ديارهم، والمقدَّر عددهم بنحو 30 ألفاً، ستتوقّف في تموز المقبل، في شبه تأكيد للتسريبات التي لمّحت إلى أنّ تجميد قرار خفض الجنود من الميدان العراقي، رغم الاستقرار الأمني النسبي الحاصل، مردّه إلى رغبة بوش في توريط خليفته في العراق.
وكان لطهران حصّة الأسد من التهديدات الأميركية؛ فإلى جانب نسبه المجهود الكبير لبلاده في العراق، إلى ضرورة احتواء الجمهورية الإسلامية وحماية حلفائه في المنطقة، جدّد العهد بدعم معارضي النظام الإسلامي، «الذي يدعم حزب الله وحماس وعدم الاستقرار في العراق». أمّا رسالته إلى القادة الإيرانيّين، فكانت قصيرة وواضحة: أوقفوا تخصيب اليورانيوم ويمكننا حينها البدء بالتفاوض معكم».
وفرضت شدّة الأزمة الاقتصادية وقساوتها على بوش البدء بالكلام عليها رغم «حماوة» مواضيع العراق وإيران... حتّى إنّ الرجل خصّص بواقعية، صفحات كاملة لمستوى التعليم الرديء في المدارس الأميركية، فهذه المواضيع هي التي يمكن أن تحسم النتائج في صناديق الاقتراع وليس العراق أو إيران أو لبنان.
هكذا يقدّم بوش لنفسه صورة يختلف المراقبون في توصيفها؛ فهو الذي أتى إلى البيت الأبيض لتحقيق وعوده الانتخابية في الاقتصاد، انتهت به الحال إلى رئيس إدارة أزمة، يقول أي شيء لطمأنة مواطنيه إزاء الركود غير المسبوق في سوق الرهن العقاري والتضخّم والبطالة... وبوش الابن، الذي لم يجد فرصة أفضل من اعتداءات 11 أيلول لحشد أكبر تحالف دولي إلى جانبه في احتلال أفغانستان و«الحرب على الإرهاب»، يقف في نهاية ولايته، وحيداً ومن دون معظم رموز فريق عمله المحافظ، منتقداً بشدّة حلفاءه الذين يتركونه يوميّاً لمصيره العاثر في أفغانستان. وهو الذي يبشّر بطريقة غير مباشرة بهبوب حروب جديدة، يعود ليضع «النصر الناجز» في العراق على أنه «حلم سيتحقّق».
الحلم بقي ثابتاًً عند الرئيس، الذي استشعر إمكان تحققه عندما وصل البيت الأبيض، وهو ما جعله يقطع مع مرحلة التردّد في التدخّل عسكرياً في الخارج، والتي ميزت عهد سلفه بيل كلينتون. عندها كان واثقاً من قدرته على فرض القيادة الأميركية للعالم، بالسياسة والعسكر... حلم تقزم في 2008 إلى مجرد محاولات تستهدف إقناع مجلسي الكونغرس بإقرار الاعتمادات الماليّة التي يطلبها.