strong>وائل عبد الفتاح
مبارك «راعي الإنجازات الرياضية» يصادر فرحة المصريين

الفرحة لم تكتمل. الرئيس المصري حسني مبارك قرّر أن يكون أوّل المستقبلين لمنتخب كرة القدم المنتصر. أخليت المنطقة المحيطة بالمطار لموكب الرئيس وعائلته وحاشيته. لم يعبر الحواجز الأمنية سوى طوابير المسؤولين في النظام، وأعداد مماثلة لجماهير اختيرت بعناية من الأجهزة الأمنية، التي كان هدفها تأمين الرئيس ومنع استمرار الاحتفال الجماعي.
ورغم استعداد المصريين لاحتفال تاريخي، فإن الأمن حدّد شكل الاحتفال، مع صدور تعليمات سرية بمنع اللاعبين من ركوب حافلة مفتوحة لتحيّة الملايين المشتاقة لمذاق النصر. القرار ببساطة هو «إلغاء الاحتفال الشعبي في مقابل ظهور الرئيس بصورة راعي الرياضة المنتصرة، إضافة إلى كون ابنيه علاء وجمال أصدقاء الرياضيين».
اختصرت «ماكينة» إعلامية ضخمة المشهد كلّه في هذه الصورة: «العائلة الحاكمة والفريق المنتصر»، ليبدو انتصار المنتخب أحد إنجازات النظام والحزب أو حتى عائلة الرئيس. رئيس مجلس الشعب يطلق تصريحاً نارياً: «الانتصار تحقّق برعاية السيد الرئيس». هلّل المذيع في التلفزيون أكثر من 10 مرات لأن جمال وعلاء مبارك على اتصال مع أعضاد الفريق فرداً فرداً. والأكثر عقلانية كان مقال الدكتور عبد المنعم سعيد، أحد عقول التفكير القريبة من النظام، إذ ربط بين الانتصار الرياضي وارتفاع أداء النظام الاجتماعي والاقتصادي.
أما الرد الفوري فكان في المدونات التي أطلقت «وصلة ردح» ضد الرئيس وأجهزته الأمنية، لإلغائه الاحتفال الشعبي و«التنكيد على الناس». وانتشرت مدونة أخرى تربط بين مبارك وديكتاتور رومانيا تشاوشيسكو، حين كانت هناك «ميداليات ذهبية، يقابلها مزيد من الفقر والجوع. كؤوس ومسيرات فرح وابتهاج، يقابلها انحطاط اجتماعي متسارع». وتحذّر المدونة من تحوّل الفرح بالنصر إلى «خمرة، يسقينا إياها النظام، فيغيب بسببها العقل. والعقل يقول إن ما تشهده مصر مشابه لما شهدته أوروبا الشرقية قبل انهيارها».
ولم تمنع ٢٤ ميدالية حصلت عليها رومانيا في دورة سيول عام ١٩٨٨ من الثورة على تشاوشيسكو وإعدامه بطريقة انتقامية. هل هذا يعني أن روح الانتصار يمكن أن تكسر حاجز الخوف، فيثور المصريون على النظام الحاكم منذ أكثر من ٢٥ عاماً؟ أم أن النظام محظوظ بانتصار لم يخطّط له، أنسي الناس مرارة غلاء الأسعار والسير في نفق اقتصادي مظلم؟
الحقيقة أن الانتصار الكروي أثار هستيريا غريبة بين المصريين. الرجل الخمسيني انقطعت حباله الصوتيه وهو يصرخ أمام كاميرات التلفزيون «مصر أمّ الدنيا». وإحدى الأمهات تعلن فرحها بانتصار مجموعة لاعبين، استطاعوا أن يقفزوا ويرفعوا علماً لم يرفع بهذا الفخر منذ انتصار تشرين الأوّل عام ١٩٧٣. استجاب المذيع في الإذاعة لبكاء المستمع وهو يقول: «أشعر بروح تشرين الأوّل ترفرف على مصر بعد أكثر من ٣٠ سنة». شوارع مدن مصر وميادينها توقفت أمس تحت سطوة الفرح الصادم.
أجيال من المصريين أنشدوا أغنيات عن عشقهم لمصر التي لا تنتمي للزمن الحاضر.
بدت تظاهرات الفرح كأنها هروب جماعي من اللحظة الراهنة. إعلان بأننا نستحق وضعاً أفضل، قالت السيدة الستينية التي وقفت بين أحفادها تغني «يا أحلى اسم في الوجود». الفريق المنتصر أهدى الانتصار لهذه الجموع المشتاقة إلى الفرح، وأكد كابتن الفريق أحمد حسن «نعرف أن الناس في مصر لن يناموا الليلة. قولوا لهم إننا سنصل ونحتفل معهم». إلاّ أن النظام الذي يدار بالأمن اختصر الاحتفال. وكان المذيع في كل مرة يذكّر اللاعبين أن مبارك اتصل فور انتهاء المباريات، وأن العائلة تدعم الفريق.
واللافت أن الجماهير المحتفلة بالانتصار لم تحمل صور الرئيس. لم تحمل أيديهم سوى العلم بألوانه الثلاثة: الأحمر والأبيض والأسود. العلم الذي تنقّل بين المدن المصرية وصولاً إلى غزة، حيث استضاف الفلسطينيون صور محمد أبو تريكة، معشوق الغزاويين الأوّل. الفرحة شملت دول الخليج أيضاً، فكانت فرحة عمومية استدعت رغبات في المزيد من الانتصارات.
«يا رب منتخب اقتصادي وسياسي، والمرة المقبلة يكون انتصارنا على إسرائيل». ملأت هذه الأمنيات المواقع الشخصية للمصريين على الـ«face book». إعلانات أخرى للانفصال عن اختيارات نظام مبارك، كانت مشحونة بعواطف ترنو إلى روح غائبة. «نخاف أن تسرق في الزحمة، حينما يركب منتخب الفساد الحاكم موجة الانتصارات ويرفع أعلام النشوة الوطنية، رغم أنهم لم يكسبوا إلاّ هذا الشعب الذي يريد أن يتخلص منهم». كان المثقف الخمسيني يحلّل: «لماذا لا يخرج المصريون في تظاهرات احتجاجية؟». كان دخان النرجيلة يطير مع سؤال لم يجب عنه المثقف: «ومن قال لك إن هذه التظاهرات المنتشية بالنصر ليست احتجاجاً على النظام؟».