strong> بول الأشقر
«إلى مواطنيَّ الكرام الذين وهبوني شرفاً عظيماً بانتخابي في الأيام الأخيرة عضواً في المجلس (النيابي)، حيث يجب إقرار اتفاقات مهمة لمصير ثورتنا، أبلغكم بأني لن أطمح ولن أقبل، أكرر لن أطمح ولن أقبل، بمنصب رئيس مجلس الدولة وقائد القوات المسلحة». بهذه الكلمات القاطعة والمقتضبة، طوى فيديل كاسترو صفحة من تاريخ كوبا بدأها منذ انتصار الثورة في عام 1959.
خمسة أيام قبل عقد جلسة مجلس النواب، التي ستنتخب رئيس مجلس الدولة والوزراء، حسم فيديل كاسترو، بهذا المزيج من الحزم والتثقيف الذي دائماً طبع خطبه والآن مقالاته منذ أن تحول إلى «مقاتل في معركة الأفكار»، المسألة التي كان من الممكن أن تربك جلسة مجلس النوّاب وتحولها عن مهامها الحقيقية.
في المقال الذي نشره أمس في جريدة «غرانما»، وبعدما ذكر الظروف التي جعلته رئيساً للوزراء خلال 18 سنة، ثم رئيساً لمجلس الدولة خلال ثلاثة عقود بعد إقرار الدستور الجديد عام 1976، تطرق كاسترو إلى الإرباك الذي لحق به «بين عدو يتربص بي... ورفاق يرفضون اعتبار تخليَّ عن مهامي».
ويتابع كاسترو كيف أنه بعدما استعاد كل قدراته الذهنية، «صار لدي القدرات البدنية الكافية لكي أكتب خلال ساعات طويلة. وهذا الذي هو بمتناولي». وأضاف أن همه الآخر «كان دائماً تحاشي زرع أوهام حول وضعي الصحي قد تتحول إحباطاً للشعب ـــــ وهو في صلب المعركة ـــــ في حال وقوع انتكاسة صحية. وتحضير الشعب نفسياً وسياسياً لغيابي هو واجبي الأول بعد كل هذه السنوات من النضال. ولم أخف يوماً أن تعافيَّ ليس منزهاً من الأخطار». وبعدما أكد «أن رغبتي كانت دائماً القيام بالواجب حتى نفسي الأخير، إلا أن هذا هو كل ما أستطيع تقديمه اليوم»، أعلن الزعيم الكوبي قراره عدم تبوّء موقع رئيس مجلس الدولة. وعلّق بالقول: إني «أخون ضميري إن قبلت بمسؤولية تتطلب حركة وتفرغاً ليس لدي القدرة الجسدية لإعطائها. وأشرح ذلك من دون تجسيم».
ثم تطرق الزعيم الكوبي إلى وجود جيلين في الثورة قادرَين على الجمع بين «عناصر هذا الفن المعقد وشبه المتعذر لتنظيم الثورة وقيادتها». وختم قائلاً: «ليست رسالة وداع. أريد فقط أن أقاتل في معركة الأفكار، وسأستمر في الكتابة تحت عنوان تأمّلات الرفيق فيديل».
تدل قراءة متأنية لمقال فيديل كاسترو أن القيادة قررت شرعنة الوضع «الانتقالي» الذي هندسه بنفسه قبل الدخول إلى قاعة العملية الجراحية قبل سنة ونصف. راوول كاسترو «الذي أصبح قائداً للقوات المسلحة بكفاءاته الخاصة»، في إشارة إلى دوره في بناء الجيش، هو عضو القيادة الوحيد المذكور باسمه في مقال أمس، والديباجة عن الجيلين «بين الحرس القديم والجيل الانتقالي» هي محاولة لرسم تقسيم جديد للعمل الجماعي سيتبلور في اجتماع نهاية الأسبوع ولتنسيق الخطوات بين آراء قد تكون متمايزة حول تحولات يدري الجميع أنها ستتسارع.
في الواقع، بدأت هذه المرحلة الانتقالية ـــــ «الاستثنائية» كما يقولون في كوبا ـــــ مع انهيار الاتحاد السوفياتي. وقتها أيضاً، أدى راوول دوراً حاسماً في إعادة تنظيم القطاع الزراعي وفي تطوير قطاعي السياحة وتحديث الإدارة. وعمّق راوول ـــــ الأكثر براغماتية من شقيقه ـــــ المنحى الإصلاحي خلال السنة والنصف الأخيرة، حيث حث الكوبيين، وتحديداً الشباب منهم، على التعبير عن طموحاتهم وانتقاداتهم من جهة، فيما ركز على تعويم قطاع النقل الذي كان على حافة الانهيار، ما يهدد بانتكاسة اقتصادية.
ليس معروفاً حتى الآن إذا ما كان فيديل سيحضر أياً من جلسات مجلس النواب، الذي أثار انتخابه عضواً فيه التكهنات بأنه عائد إلى السلطة، لكون العضوية ضرورية لتبوء مركز رئيس الدولة. أما الأكيد فإن فيديل سيستمر يكتب بوتيرة مقال أسبوعي تقريباً في جريدة «غرانما». وإذا استعاد كامل قوته البدنية، فقد يستعمل المنبر النيابي لإلقاء بعض الخطابات.
على صعيد العلاقات الدولية، تحاول كوبا راوول توسيع علاقاتها الاقتصادية مع الدول الأميركية الجنوبية ومع أوروبا، حيث سيجهد راوول لمواكبة انفتاح الجزيرة المحاصرة بانفتاح داخلي تدريجي. من شبه المستحيل حدوث تبدلات عميقة في علاقة كوبا مع الولايات المتحدة حالياً. ما يهم كوبا هو رفع الحصار الاقتصادي المفروض على الجزيرة منذ أكثر من 45 سنة، ما كلف اقتصادها عشرات من المليارات، وبالدرجة الثانية استعادة السيادة الكوبية على قاعدة غوانتانامو.
رهان القيادة الكوبية هو على تغيير قد يحدث مع انتخاب رئيس ديموقراطي للولايات المتحدة، وقد هاجم فيديل كاسترو في مقالاته الأخيرة أكثر من مرة المرشح الجمهوري جون ماكاين واصفاً إياه بـ«ممثل المافيا الكوبية الموجودة في ميامي».
وبعدما استعمل فيديل كاسترو كل جهد حياته للقيام بالثورة والدفاع عنها، ثم مرضه للقيام بمناورة باللحم الحي إذا جاز التعبير لاستكشاف الأخطار التي تهدد ثورته قبل غيابه، يسدل اليوم أحد عمالقة القرن العشرين الستارة على سيرته الشخصية ـــــ أقله الرسمية ـــــ بالاستشهاد بقول الشاعر لوبي دي فيغا: «كل أمجاد العالم تسع في حبة ذُرة».