strong>طوني صغبيني
لم يعد أمام المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون سوى التركيز على «خبرتها السياسية الطويلة» لوقف «المد الأوبامي» (نسبة لمنافسها باراك أوباما)، الذي اجتاح قواعدها الناخبة وحقق 11 فوزاً متتالياً في الانتخابات الرئاسية التمهيدية

قد يكون من المنطقي جداً للوهلة الأولى، الاعتقاد بأن التركيز على «حسن القيادة» يعطي دفعاً قوياً لمرشح رئاسة أكبر قوة إمبراطورية في العالم. إلا أن الواقع السياسي الأميركي يناقض ذلك، لا بل إن «كفاءة المرشح» تقبع في آخر اللائحة عندما تحين «لحظة الحقيقة» في البيت الأبيض.
في الولايات المتحدة، كما في كل دول العالم، تتشارك التأثيرات الشخصية والعامة في تحديد قرار الناخب. لكن تأثير «شخص» المرشح يظهر بشكل نافر في الانتخابات الأميركية، ولعلّ أبلغ تعبير عنه هو «ديانة» المرشحين، يليها العرق والجنس وصولاً إلى الشكل الخارجي.
وهذا ما تثبته الانتخابات التمهيدية الحالية، حيث يتنافس المرشحون كل يوم في إعلان إيمانهم وعلاقتهم «الخاصة» بالله، فيما أصبحت الكنائس ساحة أساسية للتخاطب مع الناخبين. واللافت هذا العام كان موجة الإيمان المفاجئة التي سقطت على المرشحين الديموقراطيين، وهم المعروف عنهم تاريخياً تحررهم الديني مقارنة بالجمهوريين المحافظين. ويذكر المراقبون في هذا السياق أزمة الجذور الإسلامية لأوباما، التي كادت تودي بحملته بكاملها لولا نفيه المستمر «للتهمة».
كذلك يؤدي العرق والجنس دوراً كبيراً عند الناخبين. وظهور هذين العاملين في الانتخابات الحالية أكبر من أي وقت مضى، في ظلّ تنافس امرأة بيضاء ورجل أسود. وتشير الإحصاءات هنا إلى أن 75 في المئة من أصوات السود تذهب في كل مرة إلى أوباما، فيما تحصد هيلاري عادة أصوات ثلثي النساء البيض.
لكن لون البشرة ليس نهاية مطاف التأثير الشخصي على الناخبين، فالوسامة لها حصتها أيضاً. والتاريخ الانتخابي الأميركي حافل بالدراسات والأمثلة التي تشير إلى ذلك، لعلّ أبرز دلالاتها فوز الممثلين (بالمعنى المهني للكلمة) بالمناصب السياسية، ومنهم الرئيس السابق رونالد ريغين وحاكم كاليفورنيا الحالي أرنولد شوارزنيغر.
وتشير دراسة ميدانية أجرتها جامعة برينستون عام 2006 إلى أن تأثير مظهر المرشح على خيار الناخب الأميركي وصل أحياناً إلى 70 في المئة مقارنة بعوامل أخرى. ومن ينسى في هذا المجال أسلوب «الكاوبوي»، النموذج المعبّر عن «الرجل الجمهوري المحافظ»، الذي ساعد الرئيس جورج بوش على الفوز بترشيح حزبه، في مقابل الصورة ــــــ الاتهام لأوباما في الزي الكيني التقليدي.
وإذا كانت الأناقة لا تكفي لحصد الأصوات، فالمؤثرات البصرية جاهزة لاستقطاب ما بقي من الناخبين المترددين. وهو السيناريو الذي نفذته السيدة الأولى السابقة، حيث تفوّقت دموعها على «بسمة أوباما الساحرة»، وأمنت لها الفوز في نيوهامشير بعد خسارتها الأولى في أيوا، الأمر الذي سبب سخرية الصحافة الأميركية نفسها بقولها «أميركا تصوّت لمن يبكي أولاً».
في المقابل، تبدو مكانة القضايا العامة في التأثير على التصويت أقل وضوحاً، إذ تتداخل المواقف السياسية للمرشحين مع «منابع» تمويل الحملة. المرشح الرئاسي الأميركي في هذا المجال لا يولد من فراغ، بل هو ثمرة سنوات طويلة من العلاقة مع مجموعات الضغط وكارتيلات الصناعة ومراكز الأبحاث الاستراتيجية، إضافة إلى العلاقة مع مراكز القوة السياسية والمعنوية في الحزب والدولة.
هذه العلاقات المتشابكة هي التي تحدد غالباً مكوّنات خطة المرشحين، ولا سيما في ما يتعلق بالسياسة الخارجية والخطة الاقتصادية (والأخيرة هي القضية العامة الأهم بالنسبة إلى الناخب). إذ إن أي اقتراح لزيادة الضرائب أو خفضها يوازيه لائحة طويلة من المتضررين والمستفيدين، المستعدين وفقاً لمصالح كل منهم، تعويم المرشح بالمال أو التسبب بإفلاسه (هذا هو سبب بقاء رالف نادر، المندد «بجرائم الشركات الكبرى»، «عميداً» للمرشحين، من دون أي أمل بالوصول إلى البيت الأبيض).
وخير تعبير عن هذه الإشكالية، انتقادات المخرج الأميركي مايكل مور للمرشحين الديموقراطيين نهاية الأسبوع الماضي، حول الضمان الصحي للمواطنين؛ فالمرشحان أعلنا رفضهما البرنامج الحكومي الأميركي لتمويل التغطية الصحية، واقترحا نظاماً يعطي حصة كبرى لشركات التأمين الخاصة، بعدما أغدقت الأخيرة أموالاً طائلة على حملتهما الانتخابية. وعبّر مور عن ذلك بقوله «أعتقد أنهما قلبياً يريدانه (التأمين الحكومي)، لكن ليس قلباهما اللذان يتحدثان، إنها جيوبهما».
وفي هذا السياق، يمكن الحديث أيضاً عن علاقة بوش بمجموعات النفط «التكساسية» وكارتيلات السلاح والشركات الأمنية الخاصة واتحادات الزراعة ودوائر المحافظين الجدد الفكرية، إضافةً إلى اللوبي الصهيوني «الحاضر دوماً» في كل انتخابات.
ونتيجة ذلك كانت على التوالي: سياسة هجومية تجاه الدول المصدرة للنفط، تسخين للنزاعات حول العالم وإطلاق سباق تسلح جديد (وأرباح بالمليارات لشركات السلاح)، تحوّل مرتزقة «بلاك ووتر» وما يشابهها من شركات أمن خاصة إلى أحد معالم النظام الدولي، رفض التقيد بشروط منظمة التجارة العالمية في ما يتعلق بالسلع الغذائية والقيود على الاستيراد، وسيادة فكر المحافظين الجدد على دوائر القرار.
بعد الاقتصاد، يتأثر الناخب بمواقف المرشح من القضايا الساخنة: الإجهاض، زواج مثليي الجنس، أبحاث الاستنساخ على الخلايا الجذعية، ثم السياسية الخارجية التي تأتي تقريباً في آخر اللائحة، إلا إذا كان تأثيرها يمسّ بعمق حياة المواطنين اليومية (من هنا القول إن الخسائر البشرية هي الأمر الوحيد الذي يدفع بواشنطن لتغيير سياستها الخارجية).
أمام هذا الواقع، يمكن إعادة النظر بمفهوم ومجال «التغيير» الذي يعلنه المرشحون (الجمهوريون والديموقراطيون على السواء) برنامجاً لهم، إذ لا بد له من الاصطدام بالإشكالية التالية: رغم صلاحيات الرئيس الكبيرة، التي تتيح له وضع بصمات هامة في تاريخ بلاده، إلا أن طريقه إلى البيت الأبيض محكومة بعوامل مسبّقة تقيّده في منصبه، منها البسيط كالمفهوم المسبق عن «شكل» الرئيس النموذجي لدى الناخب، وصولاً إلى أُخطبوط المصالح الكبرى المحيط بالرئيس، الذي يمتد من قلب واشنطن حتى الفضاء الخارجي.