أرنست خوري
مرّة جديدة يكون العراق طليعيّاً في استنساخ تجارب غربيّة تلت أحداثاً جساماً. مرّة جديدة، يؤكّد قادة العراق الجديد، أنهم لم يتّعظوا من دروس التاريخ، لاستخلاص العبر من حالات أوروبية في الغالب، حيث استفاق الشعب على أنظمة جديدة خلفت سنوات من حكم الأنظمة الديكتاتورية: أوروبا الشرقية والمعسكر السوفياتي عموماً، أو الأنظمة الفاشيّة (مع عدم مساواة النموذجين).
إقرار البرلمان العراقي أوّل من أمس تعديل قانون «اجتثاث البعث»، المسمّى «المساءلة والعدالة»، يُروَّج له على أنّه مفتاح «المصالحة الوطنيّة». والمصالحة الوطنية تكون بين خصمين أو أكثر. المهم أنها تكون بين متخاصمين وأعداء حتّى، ولا تكون بين شركاء، وإلا كان اسمها تحالفاً أو اتفاقاً، أو في أسوأ الأحوال، تنظيماً سلساً لخلافات ثانوية بالضرورة.
كان من المفترض أن يحمل هذا القانون رؤية تصالحيّة، فيها تسامح من الطرف القوي اليوم، الموالي للاحتلال، أو ببساطة، المشارك في «العملية السياسية»، إزاء الطرف القوي سابقاً، والمستضعَف اليوم، أي أعضاء حزب البعث العربي الاشتراكي في عهد حكم صدّام حسين.
بقراءة خاطفة لبنود القانون الوليد، لا يمكن إلا ملاحظة أنّها مليئة بالرغبة، لا بالتسامح، بل في الانتقام، والمعاقبة الجماعيّة لطَيف من الشعب، كان مجبراً على حمل بطاقة حزب البعث تحت طائلة حرمان الوظيفة والارتزاق والعيش حتّى. ويكفي في سبيل ذلك ذكر نصّ البند الأوّل من المادّة السادسة من الفصل الرابع، التي تقضي بـ«إنهاء خدمات جميع الموظّفين ممن كان بدرجة عضو شعبة في حزب البعث (وعضو فرقة حتّى بحسب البند السابع وهي درجات دنيا في العضوية الحزبية) وإحالتهم على التقاعد». والأخطر، أنّ مواد القانون تحكم بـ«إنهاء خدمات جميع منتسبي الأجهزة الأمنية السابقة وإحالتهم على التقاعد».
وعلماً بأنّ أعضاء الأجهزة الأمنية كانوا يُعَدّون بمئات الآلاف، ونظراً لأنّ الملايين من العراقيّين حملوا البطاقة الحزبية لتسيير أمورهم الحياتية فحسب، لا اقتناعاً بإجرام السلوك البعثي، يمكن القول براحة ضمير، إنّ القانون، عبارة عن «قصاص» للملايين من العراقيّين «العاديّين»، في الوقت الذي يحتلّ فيه العديد من البعثيّين السابقين «الكبار»، مناصب حكوميّة ونيابيّة رفيعة اليوم، كما أنّ عدداً كبيراً من رموز الصفّ الأوّل من الطبقة السياسية في بغداد وأربيل، هم ممّن عقدوا اتفاقات وتحالفات مع صدّام نفسه... وهم اليوم رؤساء ووزراء، بحكم أنّ موقعهم الطائفي والعرقي والسياسي يقدّم لهم «عفواً مجّانيّاً».
التاريخ القريب مليء بالشواهد التي تنقسم إلى نموذجين: أحدهما تكريس لكره الذات وإنكار التاريخ، وثانيهما لمحاكمة رموز الفاشيّة من دون تشفٍّ. بولندا أقرّت العام الماضي قانون «التطهير الدائم». بموجب هذا القانون، على 700 ألف موظّف حكومة بولندي أن يخضعوا لـ«فحص» لمعرفة إذا ما ارتبطوا خلال الحكم الشيوعي بالحزب الحاكم من قريب أو بعيد. أمّا ألمانيا بعد النازية، فلم تحظّر وجود الحزب النازي الجديد، بل حاكمت (ولا تزال) فقط رموز الفاشيّة والعنصريّة النازية. العراق اختار الطريقين معاً: حظر لحزب البعث، ومحاكمة كلّ من يُشتبه في ارتباطه السابق به، وحرمان الملايين من البعثيّين السابقين الوظيفة الحكوميّة... والأهمّ، قطع الطريق على أي مصالحة وطنية حقيقية والاعتراف بالتاريخ والآخر. ولا يغيّر تقدير جورج بوش لـ«الخطوة الشجاعة لحلفائنا العراقيّين» من ذلك شيئاً.