أرنست خوري
يتساءل كثيرون في تركيا عن السرّ الذي يمنح رئيس وزرائهم رجب طيّب أردوغان، هذه القدرة الفائقة على الموازنة بين جولاته الدبلوماسيّة التي لا تنتهي، و«حرتقاته» الداخليّة التي يوزّع شظاياها كرديّاً وعلويّاً. وفيما يُظهر حكّام أنقرة انفتاحاً مستحدثاً إزاء الطائفة العلويّة، لا ينفكّون يتشدّدون إزاء الأكراد، لا بل يتحدّونهم في عقر دارهم، ديار بكر

في الوقت الذي لم تنتهِ فيه بعد تداعيات «الإفطار الاستعراضي» الذي حضره تكريماً لممثّلي الطائفة العلويّة يوم الجمعة الماضي، والذي كانت أصداؤه سلبيّة في أوساط الطائفة التي ترى نفسها «مظلومة» في عهد الحكومة الإسلاميّة أكثر ممّا كانت عليه في عهد العلمانيّين، سرّب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أمس دعوة إلى العلويّين لاجتماعات مفتوحة معهم ابتداءً من نهاية الشهر الجاري، «للبدء بحلّ مشاكلهم». دعوة حملها النائب العلوي عن «العدالة والتنمية» رحا كاميروغلو، الذي كان صاحب فكرة الإفطار الإشكاليّ، عبر الصحف التركيّة.
وفي مقابل التهدئة التي يعتمدها أردوغان في الفترة الأخيرة إزاء العلويّين، قرّر الرجل رمي سهم إعلاميّ صاروخيّ، لكن هذه المرّة ذات طابع استفزازي نحو أكراد البلاد، وذلك بالتوازي مع تأكيده أنّ الحملة العسكريّة عليهم في شمال العراق «يمكن أن تُمَدَّّد”.
لكن الاستفزاز جاء هذه المرّة بعيداً عن التهديد العسكري والقانوني (المحاكمة الجارية بحقّ حزب المجتمع الديموقراطي)، بل مسّ برمزيّة «مقدّسة» بالنسبة إلى أكراد تركيا، لأنّ أردوغان اختار من بين المحافظات الـ81 التي تؤلِّف التقسيم الإداري للبلاد، ديار بكر بالتحديد، ليتوعّد بأنّ مرشّحاً عن حزبه سيكون رئيس بلديّتها في انتخابات عام 2009، وهو ما قرأه الأكراد على أنّه تهديد لوجودهم، ما استوجب ردّاً لا يقلّ حدّة، تضمّن عبارات عسكريّة، عبّر عنه رئيس بلدية المدينة نفسها التي تُعَدُّ «عاصمة جنوب شرق الأناضول» ذات الغالبيّة الكردية، عندما وصف مدينته بأنها «قلعة حصينة بالنسبة لنا (الأكراد) لن نتخلّى عنها لأحد».
وبين محاولات التقرّب من العلويّين، والتلويح باجتياح مناطق نفوذ الأكراد، تغلي تركيا داخليّاً مطمئنّة إلى وضعها خارجيّاً، وهو ما تؤكّده التصريحات التي أطلقها أردوغان من مدريد ثمّ القاهرة، بعد الاتفاق الروسي ـــــ التركي على تزويد البلاد بحاجاتها من الطاقة.
وأمام الانتكاسة التي انتهى إليها الإفطار العلوي، توقّع الجميع أن يعيد العقل المفكّر في «العدالة والتنمية» حساباته في أفضل السبل للتعاطي مع هذه الطائفة. لكن، بما أن «أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم»، قرّر أردوغان السير قدماً في مبادراته العلويّة، قائلاً إنّ الإفطار كان «ناجحاً»، دافعاً الأمور إلى الأمام من خلال توجيه دعوة مفتوحة إلى طاولة مستديرة لبتّ مطالب العلويّين التي لا تزال تتمثّل بالتالي: الاعتراف بمساجدهم على أنها «دور عبادة» مع كل ما يستتبعه هذا الاعتراف من ضمانات وحصانات. وكسر حصرية ربط الحصّة الدينية المدرسية بالمذهب السنّي، ودعم مؤسّسات الطائفة ماليّاً على غرار ما تتمتّع به مؤسّسات السنّة. وأخيراً إلغاء قانون «الشؤون الدينية»، وهي رزمة من الإصلاحات يرى العلويّون أنها لا يمكن أن تكون إلا بتعديل دستوري.
وأمام هذه الدعوة المفاجئة التي اختير أن يكون كاميروغلو وسيطها، ظهر أنّ ممثّلي العلويّين ارتبكوا. ارتباك ظهر في ردود العديد منهم، التي أرجأت الموافقة على المشاركة من عدمها إلى حين تبلور شكل الدعوة وجدول أعمالها. وقد يكون جزء من هذا الارتباك يُفَسَّر بالدفعة المسبقة التي أدّاها النائب العلوي عن الحزب الحاكم عندما أكّد أنّ الحكومة ستعود قريباً إلى دعم مؤسّسات الطائفة مالياً.
وفي بادرة «إيجابية» على الدعوة الحكومية «بالواسطة»، أبدى توران إزنر، وهو يرأس مجموعة من 148 منظّمة علوية، ترحيبه بها، معرباً عن استعداده للمشاركة في اللقاءات التي سيحضر أردوغان جزءاً منها. وكان إزنر من بين الشخصيات التي قاطعت الإفطار الشهير، غير أنه رأى في الدعوة الجديدة إيجابية، بعكس الإفطار الذي لم يحضره «لأسباب دينية».
لكن لطفي كليلي، رفض باسم عدد من المنظّمات، المشارَكة في محادثات نهاية الشهر، «لأننا لا نعتقد أنها ستحمل تغييراً في السلوك الحكومي تجاهنا»، مشيراً إلى أنّ الوعود لا قيمة لها، بما أنّ «صوت الأفعال يبقى أعلى من الكلام».
هكذا، يبدو أنّ الاتفاق الحكومي ـــــ العلوي لا يزال بعيد المنال، حتّى إذا استطاع حجرا الإفطار والدعوة إلى الاجتماعات أن يحرّكا ماء العلاقات الراكدة منذ عقود في العلاقة الثنائيّة المتوتّرة.
أمّا من الناحية الكرديّة، فالأمور تبدو أكثر تعقيداً، لأنّ المعارك تدور على جبهات ثلاث: عسكرياً في ظلّ استمرار الحملة العسكرية على «العمال الكردستاني» شمال العراق، وسياسيّاً وقضائياً لكون الدعوة القضائية الهادفة إلى حظر نشاط حزب «المجتمع الديموقراطي» ونوابه الـ22 تسير في الاتجاه الذي يراه الأكراد سوداويّاً، وإعلامياً مع تبنّي أردوغان للتحدّي الشهير التي سبق للرئيس عبد الله غول أن أطلقه خلال زيارته المناطق الكرديّة فور انتخابه رئيساً في الصيف الماضي.
رئيس بلديّة ديار بكر، عثمان بيدمير ردّ الصاع صاعين: «ديار بكر قلعة كرديّة حصينة لن نتخلّى عنها لأحد». وكان بيدمير، المنتمي إلى «المجتمع الديموقراطي»، محقّاً عندما تساءل: «لماذا اختار رئيس الوزراء ديار بكر بالتحديد ليعلن رغبته بالفوز برئاسة بلديّتها»، داعياً إيّاه إلى الاهتمام بتنمية المناطق الكرديّة بدل تحدّي إرادة ناخبيها، «فمن أصل المحافظات الـ 18 الأكثر فقراً في البلاد، 15 منها كرديّة تقع جنوب شرق الأناضول».
لا شكّ أنّ تصريح أردوغان لا يقتصر على كونه تحدّياً إعلاميّاً، بل قد يكون إشارة تسبق حكماً قضائيّاً بحقّ الحزب الكردي، ليضع الأكراد أمام واقع جديد مفاده: يتّسع «العدالة والتنمية» لوجودكم بيننا، وبما أنّكم أصبحتم يتامى بحكم القانون، اصعدوا إلى قطارنا قبل أن يفوتكم.