strong>معمر عطوي
مع موجة البرد القارس التي تضرب العديد من دول العالم، تعود قضية الغاز إلى دائرة التوظيف السياسي من جديد، لكن هذه المرة من بوابة إيران بدلاً من روسيا، حيث نشأت أزمة بين موسكو والغرب في عام 2005 على خلفية قطع الغاز الروسي عن دول أوروبا عبر البوابة الأوكرانية

المثير في ظهور قضية الغاز مجدّداً هو أن إيران، التي تعدّ ثاني منتج للغاز في العالم بعد روسيا، لا تزال تستورد هذا النوع من الطاقة من تركمانستان المجاورة، وذلك بسبب الحصار الدولي المفروض على الجمهورية الإسلامية، والذي يؤدي إلى بطء في تطوير آليات الاستثمار، التي من شأنها تحويل الغاز الخام إلى غاز مكرر.
ومشكلة الغاز باتت تطل من جديد لتتحكم بطبيعة مشهد العلاقات السياسية بين الدول، لدرجة أن طهران وصفت أخيراً قيام عشق آباد بوقف إمدادات الغاز إليها، بأنه تصرف «غير أخلاقي»، متهمة إياها بأنها تحاول تغيير بنود العقد المتعلق بهذا الخصوص بينهما.
تركمانستان، التي أوقفت منذ كانون الأول الماضي إمدادات يومية لإيران تصل إلى 23 مليون متر مكعب من الغاز، تذرّعت بمشكلات فنية، وبـ«تقاعس» طهران عن الوفاء ببعض الأقساط المالية، فيما أصرّت الأخيرة على أنها سددت جميع الأقساط.
المشكلة إذاً ليست فنية ما دامت خاضعة للتجاذب السياسي. هذا ما يراه المسؤولون الإيرانيون، إذ يعزو نائب وزير النفط، أكبر تركان، السبب إلى أن عشق آباد تريد تغيير بنود عقد غاز، مدته 25 عاماً، قائم منذ عام 1999، مشيراً إلى أن «قطع تدفق الغاز في أشد أيام العام برودة غير أخلاقي».
على ما يبدوإ فإن السبب الأساسي للمماطلة التركمانية هو مادي، إذ تسعى عشق آباد إلى رفع سعر إمداداتها إلى نحو الضعفين، أي ما يعادل 140 دولاراً لكل 1000 متر مكعب.
لكن القضية ليست في الكمية التي تحصل عليها إيران من تركمانستان، والتي لا تتعدى خمسة في المئة فقط من احتياجاتها من الغاز، بل في ما يمكن أن يسبّب مشكلات مع دول أخرى التزمت إيران بتزويدها بالغاز مثل تركيا.
فمنذ بداية العام، خفضت إيران بنسبة كبيرة صادراتها من الغاز إلى تركيا بسبب ارتفاع استهلاكها الداخلي الناجم عن موجة من البرد القارس الذي ضرب مناطقها الشمالية على وجه الخصوص.
وبحسب الاتفاقات بين أنقرة وطهران، ينبغي على الجمهورية الإسلامية تزويد تركيا يومياً بعشرين مليون متر مكعب من الغاز، لكن حجم الإمدادات تدنَّى إلى أقل من خمسة ملايين متر مكعب، ما دفع الأتراك إلى التوجه نحو روسيا لتأمين الباقي من حاجتهم.
لقد دخل الغاز الآن مرحلة التجاذب بين طهران وعشق آباد، وربما كان للتوظيف السياسي دور في هذا التجاذب، ولا سيما أن تركمانستان ترتبط بعلاقات طيبة مع عدوة إيران اللدود الولايات المتحدة. لعبة التجاذب هذه ظهرت من خلال تصريحات المسؤولين في البلدين، إذ قال وزير النفط الإيراني غلام حسين نوذري إن المحادثات بشأن الأسعار لا يمكن أن تبدأ إلا بعد أن تستأنف تركمانستان ضخ الغاز. وحذّر من أن إيران ستتوقف عن شراء الغاز من تركمانستان إذا لم تستأنف الإمدادات، فيما أكدت الأخيرة أن وقف إمداداتها بالغاز «مؤقت» وعائد إلى أعمال صيانة أنبوب.
من الواضح أن إيران، التي تمتلك 16 في المئة من احتياطي الغاز في العالم، قد استخدمت هذه المادة في توجهاتها الدبلوماسية؛ فقد ظهر الغاز واضحاً كأحد أهم بنود الاتفاقات الاقتصادية التي كانت تجريها طهران مع العديد من الدول التي تسعى إلى التقارب السياسي معها. كما وقّعت إيران مع ماليزيا اتفاقاً قيمته ستة مليارات دولار حول استثمار حقلي غاز «اوف شور»، فردوس وغولشان قرب الخليج، في حين تجتذب الجمهورية الإسلامية اهتمام شركات هندية وصينية تسعى إلى استغلال هذه الطاقة، بعيداً عن الضغوط الغربية بسبب البرنامج النووي لإيران، التي تنوي أن تضاعف ثلاث مرات إنتاجها من الغاز بحلول 2015 ليبلغ 1.5 مليار متر مكعب يومياً، وتصدير نحو 330 مليون متر مكعب يومياً.
أزمة الغاز هذه تذكِّر بحادثة قطع إمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا في شتاء عام 2005. حينها، نشب الخلاف بعد أن رفضت كييف الخطط الروسية لرفع السعر. وكانت نتيجة القرار الروسي، حرمان ليس فقط جارتها ذات التوجه الغربي، بل دول أوروبا الغربية كلها وبعض الدول الشرقية من هذه المادة الحيوية؛ فأوكرانيا تستهلك من روسيا ثُلث حاجتها من الغاز. مع الإشارة إلى أن 80 في المئة من صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا تمر عبر الأراضي الأوكرانية.
في تلك الأيام، ارتفعت صرخة العديد من الدول، وفي مقدمها ألمانيا، التي تحصل على 30 في المئة من احتياجاتها من الغاز الروسي، في حين انخفضت الإمدادات إلى رومانيا عبر أوكرانيا خمسة ملايين متر مكعب يومياً. أما حصة سلوفاكيا فقد تراجعت إلى نسبة 30 في المئة، بينما انخفضت في المجر إلى أكثر من 40 في المئة.
تلك الأزمة فتحت عيون الغرب على أهمية مصادر الطاقة في اللعبة السياسية الدولية. وبدأت هذه الدول، وفي مقدمها الولايات المتحدة، تحسب ألف حساب لموسكو المنبعثة من إرث المعسكر الاشتراكي السابق.